الشَّرْعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ كَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ، وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: ٢٣٠] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ مُسْتَفَادٌ مِنْ خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك» وَعَقْدُ النِّكَاحِ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ وَكَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَلْ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ أَوْ الْمَرْأَةُ فَقَطْ؟ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا الثَّانِي. وَهَلْ هُوَ مِلْكٌ أَوْ إبَاحَةٌ وَجْهَانِ أَوْجَههمَا الثَّانِي أَيْضًا. وَالْأَصْلُ فِي حِلِّهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَمِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: ٣٢] وَمِنْ السُّنَّةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَسِنَّ بِسُنَّتِي وَمِنْ سُنَّتِي النِّكَاحُ» .
ــ
[حاشية البجيرمي]
ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ) وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى النِّكَاحِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْعَقْدِ لَا الْوَطْءِ إلَّا إذَا نَوَاهُ وَهُوَ عَقْدٌ لَازِمٌ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ: (حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ) وَقِيلَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ وَقِيلَ: حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ أَحَدُهُمَا بِقَرِينَةٍ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْوَطْءَ بِالزِّنَا هَلْ يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَهُ النِّكَاحُ أَوْ لَا؟ عِنْدَنَا لَا يُحَرِّمُهُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيِّ يُحَرِّمُهُ، وَإِذَا عُلِّقَ الطَّلَاقُ عَلَى النِّكَاحِ عِنْدَمَا يُحْمَلُ عَلَى الْعَقْدِ وَعِنْدَهُ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَهَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ أَوْ إبَاحَةٌ؟ وَجْهَانِ يَظْهَرُ أَثَرُهُمَا فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَهُ زَوْجَةٌ وَالْأَصَحُّ لَا حِنْثَ حَيْثُ لَا نِيَّةَ وَعَلَى الْأَصَحِّ فَهُوَ مَالِكٌ لَأَنْ يَنْتَفِعَ بِالْبُضْعِ لَا لِلْمَنْفَعَةِ، فَلَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَالْمَهْرُ لَهَا اتِّفَاقًا كَمَا فِي شَرْحِ م ر وزي.
قَوْلُهُ: (مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مِنْ إطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مُسَبَّبٌ عَنْ النِّكَاحِ.
قَوْلُهُ: (كَمَا جَاءَ بِهِ) أَيْ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ أَيْ جَاءَ بِالْعَقْدِ أَيْ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ وَمَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ لِمَجِيءِ الْقُرْآنِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى إلَخْ) وُرُودُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي أَنَّ كُلًّا فِيهِ النِّكَاحُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ، فَكَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَ الْآيَةِ ثُمَّ يَقُولُ: وَقَضِيَّةُ الْآيَةِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَحِلُّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَطْءَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْحَدِيثِ وَهَذَا تَقْرِيرٌ فِي الْآيَةِ، وَفِيهَا تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَالِبَ اسْتِعْمَالُ النِّكَاحِ فِي الْعَقْدِ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْوَطْءِ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ حَمْلٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لِيُوَافِقَ الْخَارِجَ مِنْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا بِالْوَطْءِ لَا بِالْعَقْدِ.
قَوْلُهُ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» الْعَسَلُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَعُسَيْلَةٌ تَصْغِيرُ عَسَلٍ عَلَى لُغَةِ التَّأْنِيثِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ
وَاخْتِمْ بِتَا التَّأْنِيثِ مَا صَغَّرْت مِنْ ... مُؤَنَّثٍ عَارٍ ثُلَاثِيٍّ كَسِنِّ
وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ حَيْثُ شَبَّهَ لَذَّةَ الْجِمَاعِ بِالْعَسَلِ وَاسْتَعَارَهُ لَهَا وَسُمِّيَ الْجِمَاعُ عَسَلًا لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَا تَسْتَحْلِيهِ عَسَلًا وَأَشَارَ بِالتَّصْغِيرِ إلَى تَقْلِيلِ الْقَدْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حُصُولِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ وَهُوَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ اللَّذَّةِ اهـ مُلَخَّصًا مِنْ الْمِصْبَاحِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى الْأَصَحِّ) وَمُقَابِلُهُ أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ جِهَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهُ دَفْعَهُ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا فَسْخُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِهِ فَلَا يَتَأَتَّى لَا مِنْ الرَّجُلِ وَلَا مِنْ الْمَرْأَةِ.
قَوْلُهُ: (أَوْ الْمَرْأَةُ فَقَطْ) وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ أَنَّهَا لَا تُطَالِبُهُ بِالْوَطْءِ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَتُطَالِبُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْقُودٌ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ: (وَالْأَصْلُ فِي حِلِّهِ) لَمْ يَقُلْ فِي طَلَبِهِ مَثَلًا إشَارَةً إلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْإِبَاحَةُ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِالنَّذْرِ وَإِنْ عَرَضَ لَهُ الطَّلَبُ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا كَانَ أَصْلُهُ الْإِبَاحَةَ اهـ أج.
قَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى} [النور: ٣٢] جَمْعُ أَيِّمٍ وَهِيَ مَنْ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَهَذَا فِي الْأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ وَالصَّارِفُ لَهُ عَنْ الْوُجُوبِ الْإِجْمَاعُ.
قَوْلُهُ: «مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي» أَيْ خِلْقَتِي وَطَبِيعَتِي؛ لِأَنَّهُ طُبِعَ عَلَى حُبِّ النِّسَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ» أَوْ الْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ