للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ» . وَاكْتَفَى بِمَسْحِ الْبَعْضِ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْ الْمَسْحِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ خُصُوصِ النَّاصِيَةِ وَهِيَ الشَّعْرُ الَّذِي بَيْنَ النَّزَعَتَيْنِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِهَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ وَيَمْنَعُ وُجُوبَ التَّقْدِيرِ بِالرُّبُعِ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهَا دُونَهُ، وَالْبَاءُ إذَا دَخَلَتْ عَلَى مُتَعَدِّدٍ كَمَا فِي الْآيَةِ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: ٢٩] تَكُونُ لِلْإِلْصَاقِ.

ــ

[حاشية البجيرمي]

فِي التَّيَمُّمِ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِهِ، فَأُعْطِيَ حُكْمَ مُبْدَلِهِ وَهُوَ التَّعْمِيمُ وَلِثُبُوتِ التَّعْمِيمِ فِي التَّيَمُّمِ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ) أَيْ بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّهُ بَدَلٌ. وَقِيلَ: إنَّهُ أَصْلٌ. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ الشَّارِعَ نَاظِرٌ لِحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَفِي تَعْمِيمِ الْخُفِّ نَقْصٌ لَهُ. وَحَاصِلُ ذَلِكَ كَمَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ: أَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ التَّعْمِيمُ فِي التَّيَمُّمِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ فَاعْتُبِرَ حُكْمُ مُبْدَلِهِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ أَصْلٌ فَاعْتُبِرَ بَعْضُهُ وَصَدَّ عَنْ وُجُوبِهِ فِي الْخُفِّ الْإِجْمَاعُ؛ وَلِأَنَّ التَّعْمِيمَ يُفْسِدُهُ مَعَ أَنَّ مَسْحَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ لِجَوَازِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْغَسْلِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ.

قَالَ شَيْخُنَا: فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ حَيْثُ لَمْ يَجِبْ اسْتِيعَابُهُ وَمَا جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ حَيْثُ وَجَبَ، بَلْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْعَكْسَ؟ . أُجِيبَ: بِأَنَّ مَا جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ فِيهِ مَانِعٌ مِنْ اسْتِيعَابٍ وَهُوَ فَسَادُهُ بِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ. ح ل. وَلَيْسَ الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِ التَّعْمِيمِ مُجَرَّدَ الْحَاجَةِ. قَوْلُهُ: (وَرَوَى مُسْلِمٌ) لَك أَنْ تَقُولَ إنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ تَطَرَّقَ إلَيْهَا احْتِمَالُ أَنَّهُ لِلضَّرُورَةِ، فَيَجُوزُ مَسْحُ النَّاصِيَةِ أَوْ قَدْرِهَا، وَالتَّكْمِيلُ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ الِاكْتِفَاءُ بِالْبَعْضِ مُطْلَقًا. وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الرَّاوِيَ فَهِمَ تَكَرُّرَ ذَلِكَ وَكَثْرَةَ وُقُوعِهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَطْلَقَهُ فَأَخَذَ بِمُقْتَضَى إطْلَاقِهِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: كَانَ يَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ مُتَكَرِّرًا حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ عَادَتَهُ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ الرَّاوِي، ذَكَرَهُ فِي بَيَانِ وُضُوئِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرْمَاوِيٌّ. قَوْلُهُ: (وَعَلَى عِمَامَتِهِ) أَيْ وَتَمَّمَ عَلَى عِمَامَتِهِ. قَالَ ع ش: وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ أَوْ خِرْقَةً عَلَى رَأْسِهِ فَوَصَلَ الْبَلَلُ لِلرَّأْسِ، فَالْوَجْهُ أَنَّ فِيهِ تَفْصِيلَ الْجُرْمُوقِ بَلْ يَتَعَيَّنُ.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ: يَكْفِي مُطْلَقًا قَصَدَ أَمْ لَا، بِخِلَافِ الْجُرْمُوقِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُرْمُوقِ بِأَنْ ثَمَّ صَارِفًا وَهُوَ مُمَاثَلَةُ غَيْرِ الْمَسْمُوحِ عَلَيْهِ لَهُ فَاحْتَاجَ لِقَصْدِ مُمَيِّزٍ وَلَا كَذَلِكَ هُنَا.

قَوْلُهُ: (وَاكْتَفَى بِمَسْحِ الْبَعْضِ) أَيِّ بَعْضٍ كَانَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ النَّاصِيَةِ. قَوْلُهُ: (فِيمَا ذُكِرَ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَاجِبُ غَسْلَهَا جَمِيعِهَا لَمَا اكْتَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَسْحِ النَّاصِيَةِ فَقَطْ وَلَا بِالْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، فَأُخِذَ دَلِيلُنَا عَلَى مَسْحِ الْبَعْضِ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إلَخْ) هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ التَّعْلِيلِ أَيْ إذْ لَمْ يَقُلْ إلَخْ. وَقَوْلُهُ: (وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ) أَيْ الْقَائِلُ بِهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَوْلُهُ: (بِالرُّبُعِ) هُوَ رَأْيُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَوْلُهُ: (أَوْ أَكْثَرَ) هُوَ رَأْيُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَقَدْ سَأَلْت بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَذْهَبُنَا وُجُوبُ التَّعْمِيمِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ.

وَأَخْبَرَنِي أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ عِنْدَهُمْ فَرْضٌ لَا وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَسْقُطُ عَمْدًا وَلَا جَهْلًا وَلَا سَهْوًا، وَأَنَّ الثَّانِيَ يَسْقُطُ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا.

قَوْلُهُ: (وَهِيَ الشَّعْرُ) فِيهِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّاصِيَةَ مُقَدَّمُ الرَّأْسِ مِنْ أَعْلَى الْجَبِينِ، فَكَيْفَ فَسَّرَهَا هُنَا بِالشَّعْرِ الَّذِي بَيْنَ النَّزَعَتَيْنِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ مَجَازٌ وَالْعَلَاقَةُ الْحَالِيَّةُ. قَوْلُهُ: (لِلْإِلْصَاقِ) أَيْ الْمَشُوبُ بِتَعْمِيمٍ فَتُفِيدُ تَعْمِيمَ الْبَيْتِ بِالطَّوَافِ وَاسْتِيعَابِهِ إذْ لَا يُقَالُ طَوْفَةٌ إلَّا إذَا عَمَّ الدَّوْرُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>