تَنْبِيهٌ: اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الدِّيَةِ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِلِاخْتِلَافِ فِي مَحَلِّهِ. فَقِيلَ: الْقَلْبُ.
وَقِيلَ: الدِّمَاغُ.
وَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: مَسْكَنُهُ الدِّمَاغُ وَتَدْبِيرُهُ فِي الْقَلْبِ وَسُمِّيَ عَقْلًا، لِأَنَّهُ يَعْقِلُ صَاحِبَهُ عَنْ التَّوَرُّطِ فِي الْمَهَالِكِ.
وَلَا يُزَادُ شَيْءٌ عَلَى دِيَةِ الْعَقْلِ إنْ زَالَ بِمَا لَا أَرْشَ لَهُ.
فَإِنْ زَالَ بِجُرْحٍ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالْمُوضِحَةِ، أَوْ حُكُومَةٌ وَجَبَتْ الدِّيَةُ وَالْأَرْشُ، أَوْ هِيَ وَالْحُكُومَةُ.
وَلَا يَنْدَرِجُ ذَلِكَ فِي دِيَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ أَبْطَلَتْ مَنْفَعَةً غَيْرَ حَالَّةٍ فِي مَحَلِّ الْجِنَايَةِ فَكَانَتْ كَمَا انْفَرَدَتْ الْجِنَايَةُ عَنْ زَوَالِ الْعَقْلِ.
وَلَوْ ادَّعَى وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ زَوَالَ الْعَقْلِ، وَأَنْكَرَ الْجَانِي فَإِنْ لَمْ يَنْتَظِمْ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَفِعْلُهُ فِي خَلَوَاتِهِ فَلَهُ دِيَةٌ بِلَا يَمِينٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تُثْبِتُ جُنُونَهُ.
وَالْمَجْنُونُ لَا يُحَلَّفُ وَهَذَا فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ.
أَمَّا الْمُتَقَطِّعُ فَإِنَّهُ يُحَلَّفُ فِي زَمَنِ إفَاقَتِهِ.
فَإِنْ انْتَظَمَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ حُلِّفَ الْجَانِي لِاحْتِمَالِ صُدُورِ الْمُنْتَظِمِ، اتِّفَاقًا، أَوْ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ، وَخَرَجَ بِالْغَرِيزِيِّ الْعَقْلُ الْمُكْتَسَبُ الَّذِي بِهِ حُسْنُ التَّصَرُّفِ فَتَجِبَ فِيهِ حُكُومَةٌ فَقَطْ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
ــ
[حاشية البجيرمي]
الْغَرِيزِيِّ م ر.
قَوْلُهُ: (اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الدِّيَةِ) فِيهِ أَنَّهُ كَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الدِّيَةِ فِي الْعَقْلِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِهِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ) أَيْ فِي الْعَقْلِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ الْمَذْهَبُ) بِخِلَافِ بَاقِي الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْبَطْشُ وَالذَّوْقُ وَالشَّمُّ وَالْكَلَامُ فَيَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ، لِأَنَّ لَهَا مَحَالُّ مَضْبُوطَةٌ وَلِأَهْلِ الْخِبْرَةِ طُرُقٌ فِي إبْطَالِهَا كَمَا قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ وَنَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَلَا قِصَاصَ فِي الْمَعَانِي يَجِبُ مِنْ غَيْرِ سِتَّةٍ وَفِيهَا أَوْجَبُوا سَمْعٌ وَبَطْشٌ بَصَرٌ كَلَامٌ وَالذَّوْقُ وَالشَّمُّ لَهَا خِتَامُ.
قَوْلُهُ: (لِلِاخْتِلَافِ فِي مَحَلِّهِ) عِبَارَةُ الْبِرْمَاوِيِّ وَقَدْ مَرَّ أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّهُ غَرِيزَةٌ يَتْبَعُهَا الْعِلْمُ بِالضَّرُورِيَّاتِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ أَيْ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَمَحَلُّهُ الْقَلْبُ عَلَى الرَّاجِحِ لِلْآيَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: ١٧٩] وَلَهُ شُعَاعٌ مُتَّصِلٌ بِالدِّمَاغِ أَيْ الرَّأْسِ، وَقِيلَ: مَحَلُّهُ الرَّأْسُ وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ.
، وَقِيلَ: مَحَلُّهُ هُمَا مَعًا.
قَالَ الْإِمَامُ: لَا مَحَلَّ لَهُ مُعَيَّنٌ.
وَوَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَعْرَاضِ، أَوْ الْجَوَاهِرِ أَوْ لَا وَلَا وَعَلَى كُلٍّ هَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِالنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ أَمْ هُوَ كُلِّيٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ حَيٍّ مَخْلُوقٍ وَعَلَى ذَلِكَ هَلْ هُوَ مِنْ الْكُلِّيِّ الْمُشَكِّكِ، أَوْ الْمُتَوَاطِئِ؟ وَالْجَوَابُ هُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْقَلْبِ مُتَّصِلٌ بِالدِّمَاغِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ مُقَارِنٌ لَهَا فِي الْفِعْلِ وَهُوَ فِي الْإِنْسَانِ وَالْمَلَكِ وَالْجِنِّ لَكِنَّهُ فِي النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ أَكْمَلُ؛ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَكِّكِ لَا الْمُتَوَاطِئِ، وَالْمُشَكِّكُ هُوَ اتِّحَادُ اللَّفْظِ وَتَعَدُّدُ الْحُكْمِ مَعَ النَّظَرِ إلَى زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ ضَعْفًا وَقُوَّةً وَالْمُتَوَاطِئُ هُوَ الْمُتَسَاوِي فِي اللَّفْظِ اهـ.
قَوْلُهُ: (يَعْقِلُ صَاحِبَهُ) أَيْ يَمْنَعُهُ إذْ الْعَقْلُ الْمَنْعُ أَيْ شَأْنُهُ ذَلِكَ.
{فَائِدَةٌ} : الْعَقْلُ لُغَةً هُوَ الْمَنْعُ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَفِيهِ عِبَارَاتٌ أَحْسَنُهَا مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ صِفَةٌ يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَقَالَ الْعِمْرَانِيُّ: الْجُنُونُ يُزِيلُ الْعَقْلَ وَالْإِغْمَاءُ يَغْمُرُهُ وَالنَّوْمُ يَسْتُرُهُ.
وَالْوَاجِبُ فِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ؛ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ قِصَاصٌ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ الْقِصَاصُ بَيْنَ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَقُبُلِ الْمَرْأَةِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِمَا اهـ نَسَّابَةُ فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ الْأَنْكِحَةِ لِابْنِ الْعِمَادِ وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ عَلَى الْخَصَائِصِ نَقْلًا عَنْ السُّهْرَوَرْدِيِّ: وَالْعَقْلُ مِائَةُ جُزْءٍ وَاخْتُصَّ مِنْهَا الْمُصْطَفَى بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَجُزْءٌ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْجُزْءُ الَّذِي فِيهِمْ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا فَسَهْمٌ يَتَسَاوَى فِيهِ الْكُلُّ وَهُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَعِشْرُونَ سَهْمًا يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ حَقَائِقِ إيمَانِهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ ادَّعَى وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَخْ) لَمَّا كَانَ الْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ قَالَ هُنَا: وَلَوْ ادَّعَى وَلِيُّ إلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَخَرَجَ بِالْغَرِيزِيِّ الْعَقْلُ الْمُكْتَسَبُ) هَذَا مُكَرَّرٌ مَعَ مَا مَرَّ