الْآيَةَ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ اسْتِصْحَابًا مِنْهُمْ لِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ بِشَرْعٍ فِي إبَاحَتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ رَجَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ الْأَوَّلَ وَالنَّوَوِيُّ الثَّانِيَ. وَكَانَ تَحْرِيمُهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ بَعْدَ أُحُدٍ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ الْمُبَاحُ الشُّرْبَ لَا مَا يَنْتَهِي إلَى
ــ
[حاشية البجيرمي]
لِي وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَالْمُبْتَاعَةَ إلَيْهِ وَوَاهِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا» اهـ. م ر.
قَوْلُهُ: (وَالْمَيْسِرُ) هُوَ لَعِبُ الْقِمَارِ وَهُوَ كُلُّ لَعِبٍ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَهَا) أَيْ حَتَّى الْقَدْرِ الَّذِي يُزِيلُ الْعَقْلَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ مَا ذَكَرَ وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي كَلَامِهِ، وَعِبَارَةُ م ر وَكَانَ شُرْبُهَا جَائِزًا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ بِوَحْيٍ وَلَوْ إلَى حَدٍّ يُزِيلُ الْعَقْلَ عَلَى الْأَصَحِّ وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسَ لَمْ تُبَحْ فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ، لِأَنَّ ذَاكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجْمُوعِ.
قَوْلُهُ: (لِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ) الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْعَادَةُ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشَّرْعِ. قَوْلُهُ: (أَوْ بِشَرْعٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اسْتِصْحَابًا أَيْ هَلْ كَانَ اسْتِصْحَابًا لِعَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ اسْتِصْحَابًا بَلْ بِوَحْيٍ وَشَرْعٍ بِإِبَاحَتِهَا وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى وَاسْتِصْحَابًا لِشَرْعٍ مَعَ أَنَّهُ لَا شَرْعَ فَيُسْتَصْحَبَ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ تَحْرِيمُهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ) صَوَابُهُ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّ وَاقِعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ سَابِعَ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنْ الْهِجْرَةِ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْجَلَالِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: ١٢١] الْآيَةَ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بِأَنَّ نُزُولَ آيَتِهَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَتَحْرِيمَهَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ أَيْ ثُمَّ أُبِيحَتْ ثُمَّ حُرِّمَتْ فَتَكَرَّرَ فِيهَا النَّسْخُ، لِأَنَّهَا أُبِيحَتْ، ثُمَّ حُرِّمَتْ، ثُمَّ أُبِيحَتْ ثُمَّ حُرِّمَتْ إلَى الْأَبَدِ، وَعِبَارَةُ الْحَلَبِيِّ فِي السِّيرَةِ قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي هِيَ سَنَةُ سِتٍّ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَبِهِ جَزَمَ الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ.
وَقِيلَ: حُرِّمَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَيَدُلُّ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ جِرَارِهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقِيلَ: فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَقِيلَ: إنَّمَا حُرِّمَتْ فِي عَامِ الْفَتْحِ قَبْلَ الْفَتْحِ قَالَ بَعْضُهُمْ: حُرِّمَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَيْ نَزَلَ تَحْرِيمُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُشْرِبُونَهَا حَلَالًا أَيْ لِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا هُوَ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِعِشْرِينَ سَنَةً فَلَمْ تُبَحْ لَهُ قَطُّ وَقَدْ جَاءَ «أَوَّلُ مَا نَهَانِي عَنْهُ رَبِّي بَعْدَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَيْ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَتِهَا شُرْبُ الْخَمْرِ» وَتَقَدَّمَ أَنَّ جَمَاعَةً حَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَامْتَنَعُوا مِنْ شُرْبِهَا وَلَا زَالَتْ حَلَالًا لِلنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: ٢١٩] فَعِنْدَ ذَلِكَ اجْتَنَبَهَا قَوْمٌ، لِوُجُودِ الْإِثْمِ وَتَعَاطَاهَا آخَرُونَ لِوُجُودِ النَّفْعِ أَيْ وَكَانُوا رُبَّمَا شَرِبُوهَا وَصَلَّوْا فَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: ٤٣] امْتَنَعَ مَنْ كَانَ يَشْرَبُهَا حَتَّى فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَرَجَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ عَنْ شُرْبِهَا حَتَّى فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَقَالُوا: لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا وَشَرَابًا مِنْ الْخَمْرِ فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا فَأَخَذَتْ الْخَمْرَةُ مِنَّا أَيْ عُقُولَنَا وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ أَيْ الْجَهْرِيَّةُ وَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ عَابِدُونَ مَا تَعْبُدُونَ إلَى أَنْ قُلْتَ وَلَيْسَ لِي دِينٌ " ثُمَّ نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَهِيَ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: ٩٠] إلَى قَوْلِهِ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: ٩١] وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ هِيَ الَّتِي عَنَاهَا أَنَسٌ بِقَوْلِهِ: كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ «كُنْت سَاقِيَ الْخَمْرِ بِمَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ زَوْجُ أُمِّهِ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَمَرَّ مُنَادٍ يُنَادِي فَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute