يَخَفْ غَائِلَتَهُمْ وَمَكِيدَتَهُمْ، فَإِنْ خَافَ ذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ جَاسُوسًا يَخَافُ شَرَّهُمْ لَمْ يُجِبْهُمْ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ» وَيُسْتَثْنَى الْأَسِيرُ إذَا طَلَبَ عَقْدَهَا فَلَا يَجِبُ تَقْرِيرُهُ بِهَا.
وَالرُّكْنُ الْخَامِسُ: الْمَكَانُ وَيُشْتَرَطُ فِيهِ قَبُولُهُ لِلتَّقْرِيرِ فِيهِ فَيُمْنَعُ كَافِرٌ وَلَوْ ذِمِّيًّا إقَامَةً بِالْحِجَازِ وَهُوَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ، وَطُرُقُ
ــ
[حاشية البجيرمي]
الشَّارِحُ: بِأَنْ لَمْ يَخَفْ إلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَمَكِيدَتَهُمْ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوْ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ لِأَنَّ الْمَكِيدَةَ هِيَ الْأَمْرُ الْخَفِيُّ الَّذِي لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ. اهـ. ز ي وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْعَائِلَةَ الْأَذَى الظَّاهِرُ. وَالْمَكِيدَةَ الْأَذَى الْخَفِيُّ وَعَلَيْهِ فَالْعَطْفُ مُغَايِرٌ.
قَوْلُهُ: (شَرَّهُمْ) الْمُنَاسِبُ شَرَّهُ وَعِبَارَةُ غَيْرِهِ يَخَافُ شَرَّهُ وَهِيَ أَظْهَرُ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَالنَّامُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ، وَالْجَاسُوسُ هُوَ الَّذِي يَتَجَسَّسُ الْأَمَاكِنَ الْمَخُوفَةَ. قَوْلُهُ: (لَمْ يُجِبْهُمْ) هَلْ الْمُرَادُ لَمْ تَجِبْ إجَابَتُهُمْ أَوْ لَمْ تَجُزْ يَنْبَغِي الثَّانِي عِنْدَ ظَنِّ الضَّرَرِ لِلْمُسْلِمِينَ سم.
قَوْلُهُ: (فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي أَنَّ السُّلْطَانَ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ هُمْ) هُمْ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَإِنْ أَبَوْا فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ وَهُوَ الْوَاوُ وَإِنَّمَا كَانَتْ فَاعِلًا لِأَنَّ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ لَا يَلِيهَا إلَّا الْأَفْعَالُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: ١] فَإِنَّ السَّمَاءَ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إذَا انْشَقَّتْ السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ بَدَلًا مِنْ الْأُولَى أَوْ تَأْكِيدًا لَهَا تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا.
قَوْلُهُ: (فَلَا يَجِبُ تَقْرِيرُهُ بِهَا) بَلْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ وَعَقْدُ الْجِزْيَةِ يُبْطِلُ التَّخْيِيرَ. لَكِنْ يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ غَيْرَ الْقَتْلِ. اهـ. م د.
قَوْلُهُ: (الْمَكَانُ إلَخْ) الْمَكَانُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا الْحَرَمُ فَلَا يَدْخُلُهُ كَافِرٌ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُؤَمَّنًا. ثَانِيهَا بِلَادُ الْحِجَازِ فَيَجُوزُ دُخُولُهُمْ بِالْإِذْنِ وَلَا يُقِيمُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. ثَالِثُهَا سَائِرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا لَكِنْ لَا يَدْخُلُونَ مَسْجِدًا إلَّا لِحَاجَةٍ وَإِذْنِ مُسْلِمٍ وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ لِلْمُعَاهَدِ دُخُولَ الْحَرَمِ اهـ مِنْ التَّفْسِيرِ لِلشَّارِحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
قَوْلُهُ: (فَيُمْنَعُ كَافِرٌ) الْمُنَاسِبُ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى الْقَبُولِ لِلتَّقْرِيرِ أَنْ يَقُولَ: فَلَوْ أَقَرَّهُمْ فِي الْحِجَازِ لَمْ يَصِحَّ.
قَوْلُهُ: (الْحِجَازُ) مِنْ الْحَجْزِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ أَوْ بَيْنَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ أَوْ لِحَجْزِهِ بِالْجِبَالِ وَالْحِجَارَةِ.
وَهَذِهِ أَوْلَى ق ل وَهُوَ مُقَابِلٌ لِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ شَرْقِيِّهَا وَطُولُهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ مِنْ الْعَقَبَةِ مِنْ مَنَازِلِ الْحَجِّ الْمِصْرِيِّ إلَى سَدُومَ أَقْصَى مَدِينَةِ عَدَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ وَعَرْضُهُ مِنْ جَدَّةَ إلَى الشَّامِ وَيُحِيطُ بِهِ بَحْرُ الدِّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ وَبَحْرُ الْحَبَشَةِ وَبَحْرُ فَارِسٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ كَمَا يُسَمَّى حِجَازًا لِمَا مَرَّ رَحْمَانِيٌّ وَقَوْلُهُ: فَيُمْنَعُ كَافِرٌ إقَامَةَ الْحِجَازِ أَفْهَمَ كَلَامُهُ جَوَازَ شِرَاءِ أَرْضٍ فِيهِ لَمْ يَقُمْ فِيهَا قِيلَ: وَهُوَ الْأَوْجَهُ. لَكِنَّ الصَّوَابَ مَنْعُهُ لِأَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ كَالْأَوَانِي وَآلَاتِ اللَّهْوِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَا يَتَّخِذُ الذِّمِّيُّ شَيْئًا مِنْ الْحِجَازِ دَارًا وَإِنْ رُدَّ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ ذَاكَ أَيْ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ، وَلَا يُمْنَعُونَ رُكُوبَ بَحْرٍ خَارِجَ الْحَرَمِ بِخِلَافِ جَزَائِرِهِ الْمُكَوَّنَةِ قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْمُقَامِ فِي الْمَرَاكِبِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَالْبَرِّ.
وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: إذَا أَذِنَ الْإِمَامُ وَأَقَامَ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ شَرْحُ م ر.
قَوْلُهُ: (وَالْيَمَامَةُ) وَهِيَ بَلَدُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَهِيَ مَدِينَةٌ بِقُرْبِ الْيَمَنِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ وَمَرْحَلَتَيْنِ مِنْ الطَّائِفِ وَسُمِّيَتْ بِاسْمِ جَارِيَةٍ زَرْقَاءَ كَانَتْ تَسْكُنُهَا وَكَانَتْ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَسَارَ إلَيْهَا أَعْدَاؤُهَا وَجَعَلُوا الْأَشْجَارَ عَلَى ظُهُورِ الْإِبِلِ فَرَأَتْهُمْ مِنْ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَالَتْ لِقَوْمِهَا أَرَى بَسَاتِينَ سَيَّارَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَهَزَءُوا بِهَا وَقَالُوا فَسَدَ نَظَرُهَا الْبَسَاتِينُ تَسِيرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَمَا شَعَرُوا حَتَّى هَجَمُوا عَلَيْهِمْ الْيَمَامَةَ فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا الزَّرْقَاءَ فَقَتَلُوهَا وَقَلَعُوا عَيْنَهَا فَرَأَوْا عُرُوقَهَا مِنْ دَاخِلٍ قَدْ امْتَلَأَتْ بِالْكُحْلِ. اهـ. عَبْدُ الْبَرِّ قَالَ الْمَعَرِّيُّ:
سُبْحَانَ مَنْ قَسَمَ الْحُظُوّ ... ظَ فَلَا عِتَابَ وَلَا مَلَامَهْ
أَعْمَى وَأَعْشَى ثُمَّ ذُو ... بَصَرٍ وَزَرْقَاءُ الْيَمَامَهْ