وَامْتِنَاعُ الْبِرِّ يُخِلُّ بِهِ فَيُحْوِجُ إلَى التَّكْفِيرِ وَتَكُونُ الْيَمِينُ أَيْضًا لِلتَّأْكِيدِ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] الْآيَةَ وَأَخْبَارٌ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَن قُرَيْشًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَضَابِطُ الْحَالِفِ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ قَاصِدٌ فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلَا الْمُكْرَهِ وَلَا يَمِينُ اللَّغْوِ.
ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ فَقَالَ: (وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ إلَّا بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَاتُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُرَادُ بِهَا الْحَقِيقَةُ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ غَيْرِهِ. أَوْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ وَلَوْ مُشْتَقًّا أَوْ مِنْ غَيْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. سَوَاءٌ كَانَ اسْمًا مُفْرَدًا كَقَوْلِهِ: " رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " أَوْ لَمْ يَكُنْ كَقَوْلِهِ: وَاَلَّذِي
ــ
[حاشية البجيرمي]
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُنْحَصِرٌ فِي شَيْئَيْنِ الْمُحْتَمَلُ كَوَاللَّهِ لَأَضْرِبَن زَيْدًا وَالْمُسْتَحِيلُ كَوَاللَّهِ لَأَقْتُلَن الْمَيِّتَ. أَمَّا الْوَاجِبُ فَلَا يَكُونُ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ كَوَاللَّهِ لَأَمُوتَن لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إلَّا الْبِرُّ وَهُوَ لَا يُخِلُّ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْمُسْتَحِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إلَّا الْحِنْثُ وَهُوَ يُخِلُّ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَحْيَا اللَّهُ الْمَيِّتَ وَقَتَلَهُ أَوْ صَعِدَ السَّمَاءَ. سَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ فَيَسْتَرِدُّهَا إنْ كَانَ دَفَعَهَا. قَوْلُهُ: (وَفَارَقَ) أَيْ عَدَمُ انْعِقَادِهَا فِي الْوَاجِبِ. قَوْلُهُ: (وَضَابِطُ الْحَالِفِ) سَكَتَ عَنْ اشْتِرَاطِ النُّطْقِ فَقِيلَ: يُشْتَرَطُ وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ فَيَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ. بِأَنْ حَلَفَ بِالْإِشَارَةِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ أَوْ لَا يَلْبَسُ الثَّوْبَ مَثَلًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ مُعْتَدٌّ بِهَا فِي جَمِيعِ الْأَبْوَابِ إلَّا ثَلَاثَةً لَا يُعْتَدُّ بِإِشَارَتِهِ فِيهَا وَلَيْسَ الْحَلِفُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْهَا. نَعَمْ إنْ حَلَفَ بِالْإِشَارَةِ عَلَى عَدَمِ الْكَلَامِ فَتَكَلَّمَ بِالْإِشَارَةِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ مُنْعَقِدَةً سَوَاءٌ حَلَفَ وَهُوَ نَاطِقٌ ثُمَّ خَرِسَ أَوْ حَلَفَ بَعْدَ الْخَرَسِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ) قَالَ فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ وَيَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ أَيْ بِوَاحِدٍ مِنْهَا وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِاَللَّهِ أَوْ مَا هُوَ فِيهِ أَغْلَبُ إنْ أَرَادَهُ أَوْ أَطْلَقَ أَوْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ. وَعَلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ وَقَصَدَ هُوَ بِهِ وَقَوْلُهُ: هُوَ أَيْ اللَّهُ وَقَوْلُهُ بِهِ أَيْ بِالْيَمِينِ أَوْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ. قَوْلُهُ: (إلَّا بِذَاتِ اللَّهِ) فِي نُسْخَةٍ سم الْعَبَّادِيُّ إلَّا بِاَللَّهِ قَالَ: أَيْ بِهَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ الدَّالِّ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ بِاسْمٍ إلَخْ قَالَ كَالرَّحْمَنِ أَوْ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْإِلَهِ وَقَوْلُهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: ٤] اهـ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ إلَّا بِذَاتِ اللَّهِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ حَلَفَ بِعِنْوَانِ الذَّاتِ. بِأَنْ قَالَ: بِذَاتِ اللَّهِ لَأَفْعَلَن كَذَا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَطْفُ بَعْدَهُ مِنْ عَطْفِ الْمُغَايِرِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَاتِ اللَّهِ مَا يُفْهَمُ مِنْ الذَّاتِ مُجَرَّدَةً عَنْ الصِّفَاتِ وَهُوَ لَفْظُ اللَّهِ وَيَكُونُ الْمَتْنُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ إلَّا بِهَذَا الِاسْمِ الْكَرِيمِ وَيَكُونُ عَطْفُ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.
قَوْلُهُ: (أَيْ بِمَا يُفْهَمُ) أَيْ بِاسْمٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَصَانِعِ الْمَوْجُودَاتِ قَالَ شَيْخُنَا م ر. وَمِنْهُ الْجَنَابُ الرَّفِيعُ وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ، وَمُقْسِمُ الْأَدْيَانِ، وَفِي شَرْحِهِ عَدَمُ الِانْعِقَادِ بِالْجَنَابِ الرَّفِيعِ وَأَنَّهُ لَيْسَ كِنَايَةً ق ل. وَنَصُّهُ: وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْحَلِفُ مِنْ الْعَوَامّ بِالْجَنَابِ الرَّفِيعِ وَيُرِيدُونَ بِهِ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا مِنْ اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ إذْ جَنَابُ الْإِنْسَانِ فِنَاءُ دَارِهِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْيَمِينُ كَمَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ مَعَ الِاسْتِحَالَةِ اهـ. قَالَ ع ش: وَيَحْرُمُ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ قَصَدَهُ أَوْ أَطْلَقَ وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا لَكِنَّهُ إذَا صَدَرَ مِنْهُ يُعْرَفُ فَإِنْ عَادَ إلَيْهَا عُزِّرَ، وَمِثْلُهُ فِي امْتِنَاعِ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ تَعَالَى مَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ قَوْلِ الْعَوَامّ اتَّكَلْت عَلَى جَانِبِ اللَّهِ أَوْ الْحَمْلَةُ عَلَى اللَّهِ اهـ. قَوْلُهُ: (الْمُرَادُ بِهَا الْحَقِيقَةُ) صِفَةٌ لِلذَّاتِ.
قَوْلُهُ: (وَلَوْ مُشْتَقًّا) يُتَأَمَّلُ هَذَا مَعَ أَنَّ سَائِرَ أَسْمَائِهِ مُشْتَقَّةٌ وَتَأَمَّلْنَاهُ فَوَجَدْنَا لَفْظَ الْجَلَالَةِ غَيْرَ مُشْتَقٍّ.
قَوْلُهُ: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَلَوْ قَالَ: وَرَبِّ الْعَالَمِ وَقَالَ أَرَدْت بِالْعَالَمِ كَذَا مِنْ الْمَالِ وَبِرَبِّهِ مَالِكَهُ قُبِلَ لِأَنَّ مَا قَالَهُ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ ع ش عَلَى م ر.
قَوْلُهُ: (أَوْ لَمْ يَكُنْ) مُرَادُهُ بِهِ الْمَوْصُولَ أَوْ الْمَوْصُوفَ كَمَا مَثَّلَ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُفْرَدًا اهـ. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الَّذِي أَعْبُدُهُ مِنْ أَسْمَائِهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا لَا الْمَوْصُولُ وَحْدَهُ وَلَا مَعَ الصِّلَةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْحَيَّ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مَعَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَيَاةِ تَأَمَّلْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute