أَكْثَرِهَا أَيْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَمْدِ وَغَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ يُؤْتَى بِهَا لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى آخَرَ، وَلَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَيُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ لَهَا بَابًا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَالْعَامِلَ فِيهَا، أَمَّا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لِنِيَابَتِهَا عَنْ الْفِعْلِ أَوْ الْفِعْلِ نَفْسِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ.
وَالْأَصْلُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ (فَقَدْ سَأَلَنِي) أَيْ طَلَبَ مِنِّي (بَعْضُ الْأَصْدِقَاءِ) جَمْعُ صَدِيقٍ وَهُوَ الْخَلِيلُ وَقَوْلُهُ:
ــ
[حاشية البجيرمي]
عِنْدَ، أَوْ الْمَعْنَى لِإِرَادَةِ الِانْتِقَالِ. اهـ. ع ش. قَوْلُهُ: (وَلَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ) أَيْ مَقْطُوعَةً عَنْ الْإِضَافَةِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ فَلَا مَانِعَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا يَجُوزُ أَيْ صِنَاعَةً، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَا شَرْعًا، أَوْ الْمُرَادُ لَا يُسْتَحْسَنُ م د. وَقَوْلُهُ: أَيْ مَقْطُوعَةً عَنْ الْإِضَافَةِ لَيْسَ بِصَوَابٍ، وَالصَّوَابُ إطْلَاقُ الشَّارِحِ فَقَدْ اعْتَرَضُوا عَلَى الْأُشْمُونِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْخُطْبَةِ أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ حَيْثُ قَالُوا: لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَقُولَ أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ. وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ تَقَدَّمَ لَهُ الْبَسْمَلَةُ وَالْحَمْدَلَةُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَفْظًا فَهِيَ وَاقِعَةٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ تَقْدِيرًا فِي كَلَامِهِ انْتَهَى.
قَوْلُهُ: (أَوْ الْفِعْلِ نَفْسِهِ) هَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الشَّرْطِ فَإِنْ جُعِلَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْجَزَاءِ فَالْعَامِلُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ وَالْأَوْلَى جَعْلُهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْجَوَابَ فِيهِ يَكُونُ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ مُطْلَقٍ، وَالتَّعَلُّقُ عَلَى الْمُطْلَقِ أَقْرَبُ لِتَحَقُّقِهِ فِي الْخَارِجِ مِنْ التَّعْلِيقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَتَقْدِيرُ الْقَوْلِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَدْ سَأَلَنِي مَاضٍ لَفْظًا وَمَعْنًى وَجَوَابُ الشَّرْطِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَمَّا بَعْدُ، فَأَقُولُ قَدْ سَأَلَنِي إلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَصْلُ) الْمُرَادُ بِالْأَصْلِ مَا حَقُّ التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فَالْأَصَالَةُ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ شَيْئًا حُذِفَ مِنْ التَّرْكِيبِ وَاخْتُصِرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَصْلُهَا خُصُوصَ مَهْمَا لَا غَيْرِهَا لِمَا فِي مَهْمَا مِنْ الْإِبْهَامِ لِأَنَّهَا تَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَاقِلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَهَذَا الْإِبْهَامُ يُنَاسِبُ هُنَا لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّعْلِيقُ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ مَا بِخِلَافِ غَيْرِ مَهْمَا مِنْ الْأَدَوَاتِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ تَكَلَّمَ بِأَمَّا بَعْدُ، فَقِيلَ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَهِيَ فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ لِأَنَّهَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَقَاصِدِ وَالْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ، وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا يَعْقُوبُ، وَقِيلَ أَيُّوبُ، وَقِيلَ سُلَيْمَانُ، وَقِيلَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ، وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَقِيلَ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ، وَقِيلَ سَحْبَانُ بْنُ وَائِلٍ، وَعَلَيْهَا فَفَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُد: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " لَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا سَحْبَانُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُهَا فِي خُطَبِهِ وَهُوَ قَبْلَ سَحْبَانَ إجْمَاعًا إذْ سَحْبَانُ كَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِحَّةُ هَذَا الْجَوَابِ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَصْدُرْ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ إلَى زَمَنِ سَحْبَانَ، وَالظَّنُّ خِلَافُ ذَلِكَ لِمَا عُلِمَ مِنْ كَمَالِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانُونَ أَنَّنِي ... إذَا قُلْت أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبُهَا
وَبَعْدُ ظَرْفٌ زَمَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ النُّطْقِ وَمَكَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ الرَّسْمِ.
قَوْلُهُ: (مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ) مَهْمَا اسْمُ شَرْطٍ مُبْتَدَأٌ وَالِاسْمِيَّةُ لَازِمَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ، وَيَكُنْ شَرْطٌ وَالْفَاءُ لَازِمَةٌ لَهُ غَالِبًا فَحِينَ تَضَمَّنَتْ أَمَّا مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَالشَّرْطِ لَزِمَتْهَا الْفَاءُ وَلُصُوقُ الِاسْمِ إقَامَةً لِلَّازِمِ وَهُوَ الْفَاءُ وَلُصُوقُ الِاسْمِ مَقَامَ الْمَلْزُومِ وَهُوَ الْمُبْتَدَأُ وَالشَّرْطُ وَإِبْقَاءً لِأَثَرِهِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الِاسْمِيَّةَ لَيْسَتْ فِي أَمَّا بَلْ مُلَاصِقَةٌ لَهَا. وَعِبَارَةُ أج وَإِنَّمَا لَزِمَتْ الْفَاءُ بَعْدَ أَمَّا وَلَمْ تَلْزَمْ بَعْدَ غَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوطِ، لِأَنَّ أَمَّا لَمَّا كَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى الشَّرْطِ بِنِيَابَتِهَا عَنْ مَهْمَا يَكُنْ ضَعُفَتْ فَاحْتَاجَتْ لِلُزُومِ الْفَاءِ لِتَدُلَّ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ بِخِلَافِ مَهْمَا وَغَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوطِ، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الشَّرْطِيَّةِ بِالْأَصَالَةِ اهـ. وَإِعْرَابُ هَذَا اللَّفْظِ مَهْمَا: مُبْتَدَأٌ. وَيَكُنْ فِعْلُ الشَّرْطِ وَهِيَ تَامَّةٌ بِمَعْنَى يُوجَدُ، وَمِنْ: زَائِدَةٌ. وَشَيْءٍ: فَاعِلٌ لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَحْذُورَانِ زِيَادَةُ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ، وَخُلُوُّ فِعْلِ الشَّرْطِ مِنْ عَائِدٍ عَلَى الِاسْمِ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً، فَالْأَوْلَى أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَعُودُ عَلَى مَهْمَا، وَمِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِمَهْمَا، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَيَانِ بَيَانُ عُمُومِ مَهْمَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute