(حَفِظَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى) جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ (أَنْ أَعْمَلَ) أَيْ أُصَنِّفَ (مُخْتَصَرًا) وَهُوَ مَا قَلَّ لَفْظُهُ وَكَثُرَ مَعْنَاهُ لَا مَبْسُوطًا وَهُوَ مَا كَثُرَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ، قَالَ الْخَلِيلُ: الْكَلَامُ يُبْسَطُ لِيُفْهَمَ وَيُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ (فِي) عِلْمِ (الْفِقْهِ) الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَيْنِ الْعُلُومِ بِالذَّاتِ وَبَاقِيهَا لَهُ كَالْآلَاتِ، لِأَنَّهُ بِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَتَوَاتَرَتْ وَتَطَابَقَتْ الدَّلَائِلُ الصَّرِيحَةُ وَتَوَافَقَتْ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَالِاجْتِهَادِ، فِي اقْتِبَاسِهِ وَتَعْلِيمِهِ: فَمِنْ الْآيَاتِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩] وقَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: ١١٤]
ــ
[حاشية البجيرمي]
عِبَارَةً عَنْ حُصُولِ نَوْعٍ بِعَيْنِهِ، فَانْدَفَعَ مَا يُقَالُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْبَيَانِ لِإِبْهَامِهِ، ثُمَّ إنَّ خَبَرَ مَهْمَا هُوَ فِعْلُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَتَوَقُّفُ الْفَائِدَةِ عَلَى الْجَوَابِ مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ لَا مِنْ حَيْثُ الْخَبَرِيَّةُ م د عَلَى قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: (جَمْعُ صَدِيقٍ) فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الصَّادِقُ الْمَوَدَّةَ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْحَبِيبِ فَإِنَّ الْحَبِيبَ ذُو الْوُدِّ، وَالْخَلِيلُ صَافِي الْوُدِّ، قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: وَالصَّدِيقُ مَنْ يَفْرَحُ لِفَرَحِك وَيَحْزَنُ لِحُزْنِك وَضِدُّهُ الْعَدُوُّ. وَالصَّاحِبُ مَنْ طَالَتْ عِشْرَتُك بِهِ، وَالْخَلِيلُ مَنْ يَفْرَحُ لِفَرَحِك وَيَحْزَنُ لِحُزْنِك وَتَخَلَّلَتْ مَحَبَّتُهُ فِي الْأَعْضَاءِ، وَالْحَبِيبُ مَنْ يَفْرَحُ لِفَرَحِك وَمَنْ يَحْزَنُ لِحُزْنِك وَتَخَلَّلَتْ مَحَبَّتُهُ فِي الْأَعْضَاءِ وَتَفْدِيهِ بِمَالِك اهـ. وَالْعَدَاوَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ عَدَا فُلَانٌ عَنْ طَرِيقِ فُلَانٍ أَيْ جَاوَزَهُ وَلَمْ يُوَافِقْهُ فِيمَا طَلَبَهُ وَكَانَ أَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَلْقَ يَوْمَ أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمْ كَانُوا عَلَى أَحْوَالٍ فَمَا كَانَ وَجْهًا لِوَجْهٍ فَمُحَالٌ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ وَمَا كَانَ ظَهْرَ الظَّهْرِ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا صَدَاقَةٌ وَمَا كَانَ وَجْهًا لِظَهْرٍ فَصَاحِبُ الْوَجْهِ مُحِبٌّ عَاشِقٌ وَصَاحِبُ الظَّهْرِ مُبْغِضٌ ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّعْرَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمِنَنُ.
قَوْلُهُ: (جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ) وَالدُّعَاءُ رَفْعُ الْحَاجَاتِ إلَى رَافِعِ الدَّرَجَاتِ وَهُوَ بِلَا وَاسِطَةٍ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ فَكَانُوا يَفْزَعُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ إلَى الْأَنْبِيَاءِ يَسْأَلُونَ لَهُمْ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَهُ الشَّبْرَخِيتِيُّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ. قَوْلُهُ: (أَنْ أَعْمَلَ) آثَرَهُ عَلَى أُصَنِّفُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَضْمُ نَفْسِهِ، وَثَانِيهِمَا إشَارَةً إلَى تَعَبِهِ فِيهِ بِالِاخْتِصَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَكَثُرَ مَعْنَاهُ) لَيْسَ قَيْدًا. قَوْلُهُ: (قَالَ الْخَلِيلُ إلَخْ) دَلِيلٌ لِكَوْنِهِ عَمِلَهُ مُخْتَصَرًا وَلَمْ يَعْمَلْهُ مُطَوَّلًا، وَالشَّاهِدُ فِي قَوْلِهِ وَيُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ.
قَوْلُهُ: (فِي الْفِقْهِ) إنْ قُلْت: الْمُخْتَصَرُ اسْمٌ لِلْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى الرَّاجِحِ وَعِلْمُ الْفِقْهِ هُوَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا وَلَا مَعْنَى لِظَرْفِيَّةِ الْأَلْفَاظِ فِي الْمَعَانِي. أُجِيبُ: بِأَنَّ الْمَعْنَى مُخْتَصَرًا دَالًّا عَلَى الْفِقْهِ، فَشَبَّهَ الدَّالَّ وَالْمَدْلُولَ بِالظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ تَشْبِيهًا مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا شِدَّةُ التَّمَكُّنِ، وَفِي قَرِينَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمُسَمَّاةِ تَخْيِيلًا، ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ فِي الْفِقْهِ صِفَةٌ لِمُخْتَصَرٍ جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ الظُّرُوفَ بَعْدَ النَّكِرَاتِ صِفَاتٌ خِلَافًا لِقَوْلِ ق ل إنَّهُ حَالٌ اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقٌ بِأَعْمَلَ. قَوْلُهُ: (كَالْآلَاتِ) فِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْآلَاتِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ بِحِفْظِ مُجَرَّدِ الْأَحْكَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ كَالْآلَاتِ بِالْكَافِ. وَقَوْلُهُ: حَالٌ مِنْ الْآلَاتِ. أَيْ كَالْآلَاتِ لَهُ م د. لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ بِالنَّظَرِ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، لِأَنَّ الْفِقْهَ لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الْمُجْتَهِدَ مَعْرِفَةُ جَمِيعِهَا إلَّا بِوَاسِطَةِ الْآلَاتِ فَنَحْوُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَلَكَةٌ تُوَصِّلُهُ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ يُعْلَمُ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ. إذَا فَهِمْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ قَوْلَ الْمُؤَلِّفِ كَالْآلَاتِ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ كَالْآلَاتِ الْمَحْسُوسَةِ وَإِنْ كَانَتْ هُنَا مَعْقُولَةً.
قَوْلُهُ: (يُعْرَفُ الْحَلَالُ) يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ. وَقَوْلُهُ: (وَغَيْرُهُمَا) تَحْتَهُ الْمَكْرُوهُ وَالْأَحْكَامُ الْوَضْعِيَّةُ الْخَمْسَةُ.
قَوْلُهُ: (تَظَاهَرَتْ) أَيْ اجْتَمَعَتْ وَتَعَاوَنَتْ، وَالْآيَاتُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (الدَّلَائِلُ) هِيَ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ، فَالْمَقَامُ لِلْإِضْمَارِ فَلَعَلَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ وَصْفِهَا بِالصَّرَاحَةِ. وَقَوْلُهُ: (وَتَوَافَقَتْ) تَفْسِيرٌ لَتَطَابَقَتْ وَعَطْفُ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَفْسِيرٌ قَوْلُهُ: (عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ) لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي الْفِقْهِ وَلَوْ مِنْ الصَّنَائِعِ فَأَلْ لِلْجِنْسِ.
قَوْلُهُ: