الْحَرَامِ " وَالِاسْتِقْبَالُ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ وَهُوَ خَلَّادُ بْنُ رَافِعٍ الزُّرَقِيُّ الْأَنْصَارِيُّ: «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ» . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
ــ
[حاشية البجيرمي]
وَأَرْبَعٌ تَكَرَّرَ النَّسْخُ لَهَا ... جَاءَتْ بِهَا النُّصُوصُ وَالْآثَارُ
لِقِبْلَةٍ وَمُتْعَةٍ وَحُمُرِ كَذَا ... الْوُضُوءُ مِمَّا تَمَسُّ النَّارُ
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَخَمْرَةٍ بَدَلُ حُمُرِ، فَقَدْ قَالَ سَيِّدِي عَلِيُّ الَأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْبُخَارِيِّ: وَلَيْسَتْ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ مِمَّا تَكَرَّرَ نَسْخُهَا كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَوْلُهُ: لِقِبْلَةٍ مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَتْ، أَمَّا الِاسْتِقْبَالُ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: ١٤٢] أَيْ أَوَّلًا وَهِيَ الْكَعْبَةُ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إلَيْهَا، فَلَمَّا هَاجَرَ أُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمُقَدَّسِ تَأْلِيفًا لِلْيَهُودِ وَصَلَّى إلَيْهِ سِتَّةَ أَوْ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ حُوِّلَ إلَى الْكَعْبَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: ١٤٤] مُتَطَلِّعًا إلَى الْوَحْيِ مُتَشَوِّقًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِقْبَالِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَ يَوَدُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ؛ وَلِأَنَّهُ أَدْعَى إلَى الْإِسْلَامِ أَيْ إسْلَامِ الْعَرَبِ: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: ١٤٤] تُحِبُّهَا {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٤٤] أَيْ الْكَعْبَةِ. فَائِدَةٌ: كُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَالْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحَرَمِ إلَّا قَوْلَهُ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: ١٤٤] إلَخْ.
قَوْلُهُ: (بِالصَّدْرِ) حَقِيقَةً فِي الْوَاقِفِ وَالْجَالِسِ وَنَحْوِهِمَا وَحُكْمًا فِي الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ وَنَحْوِهِمَا. قَالَ شَيْخُنَا الْحِفْنِيُّ: وَلَوْ صَلَّى مُضْطَجِعًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا، فَالِاسْتِقْبَالُ بِمُقَدَّمِ الْبَدَنِ أَيْ الصَّدْرِ وَالْوَجْهِ، وَالْمُسْتَلْقِي لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ أَخْمَصَاهُ مَعَ وَجْهِهِ لِلْقِبْلَةِ، فَتَقْيِيدُ الشَّارِحِ بِالصَّدْرِ بِالنَّظَرِ لِلْغَالِبِ، وَكَذَا قَوْلُهُ لَا بِالْوَجْهِ فَالِالْتِفَاتُ بِالْوَجْهِ غَيْرُ مُبْطِلٍ بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ.
قَوْلُهُ: (لَا بِالْوَجْهِ) أَيْ لَا يَكْفِي الْوَجْهُ وَحْدَهُ بِدُونِ الصَّدْرِ وَلَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ، نَعَمْ يَجِبُ مَعَ غَيْرِهِ فِي الْمُضْطَجِعِ فَيَجِبُ بِالْوَجْهِ وَمُقَدَّمِ الْبَدَنِ وَالْمُسْتَلْقِي كَذَلِكَ مَعَ أَخْمَصَيْهِ، وَيَجِبُ رَفْعُ رَأْسِهِ قَلِيلًا إنْ أَمْكَنَ، وَالْمُرَادُ بِالصَّدْرِ جَمِيعُ عَرْضِ الْبَدَنِ، فَلَوْ اسْتَقْبَلَ طَرَفَهَا فَخَرَجَ شَيْءٌ مِنْ الْعَرْضِ عَنْ مُحَاذَاتِهِ لَمْ يَصِحَّ كَمَا قَالَهُ حَجّ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ الشَّارِحِ لَا بِالْوَجْهِ أَيْ مَثَلًا أَيْ: وَلَا بِالْيَدِ مَثَلًا وَإِنَّمَا خَصَّ الْوَجْهَ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّوَهُّمِ.
قَوْلُهُ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: ١٤٤] أَيْ ذَاتَك مِنْ إطْلَاقِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيِّنٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَعَيُّنُ الِاسْتِقْبَالِ بِالْوَجْهِ اج. وَالْمُرَادُ بِالذَّاتِ بَعْضُهَا كَالصَّدْرِ فَهُوَ مَجَازٌ مَبْنِيٌّ عَلَى مَجَازٍ.
قَوْلُهُ: (أَيْ نَحْوَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أَيْ عَيْنِهِ. وَفِي الْخَادِمِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْعَيْنِ الْجِدَارَ بَلْ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ، أَيْ: وَهُوَ سَمْتُ الْبَيْتِ وَهَوَاؤُهُ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ حَجّ شَوْبَرِيٌّ. قَالَ ز ي: وَالْجِهَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْعَيْنِ وَإِطْلَاقُهَا عَلَى غَيْرِهَا مَجَازٌ، بَلْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ إلَّا عَلَى الْعَيْنِ اهـ أَيْ وَهُوَ الَّذِي نُقِلَ عَنْ إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ ق ل قَوْلُهُ: أَيْ نَحْوَ الْمَسْجِدِ لَمْ يَقُلْ عَيْنَهُ مَعَ أَنَّهُ مَعْنَى الشَّطْرِ لُغَةً لِأَجْلِ الْإِجْمَاعِ الْآتِي اهـ. وَفِي ع ش عَلَى الْمَوَاهِبِ مَا نَصُّهُ: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى أَوَّلًا إلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صُرِفَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ فَصَلَّى إلَيْهِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وَجَّهَهُ اللَّهُ إلَى الْكَعْبَةِ وَلَيْسَتْ صَلَاتُهُ بِاجْتِهَادٍ بَلْ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَوْلُهُ: (وَالِاسْتِقْبَالُ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ) لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ أَيْ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: ١٤٣] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ، فَالْكَلَامُ فِيهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلٍ وَالِاسْتِقْبَالُ إلَخْ.
قَوْلُهُ: (الْأَنْصَارِيُّ) النِّسْبَةُ إلَى الْجَمْعِ إنَّمَا تَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْفَرْدِ، فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ النَّاصِرِيُّ شَوْبَرِيٌّ، إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا الْجَمْعَ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَصَحَّتْ النِّسْبَةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُفْرَدًا كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: