لَا يَطْرَحَهَا طَارِحٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً» أَيْ وَهُوَ الْيَسَارُ كَمَا قِيلَ «وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً» زَادَ أَبُو دَاوُد «وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» وَقَدْ يُفْضِي غَمْسُهُ إلَى مَوْتِهِ، فَلَوْ نَجُسَ الْمَائِعُ لَمَا أَمَرَ بِهِ، وَقِيسَ بِالذُّبَابِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ مَيْتَةٍ لَا يَسِيلُ دَمُهَا، فَلَوْ شَكَكْنَا فِي سَيْلِ دَمِهَا اُمْتُحِنَ بِجِنْسِهَا فَتُجْرَحُ لِلْحَاجَةِ قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يَسِيلُ دَمُهَا لَكِنْ لَا دَمَ فِيهَا أَوْ فِيهَا دَمٌ لَا يَسِيلُ لِصِغَرِهَا لَهَا حُكْمُ مَا يَسِيلُ دَمُهَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَيُسْتَثْنَى أَيْضًا نَجِسٌ لَا يُشَاهَدُ بِالْبَصَرِ
ــ
[حاشية البجيرمي]
فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ إلْقَاءُ الزِّيَادَةِ فِي الْقِنْدِيلِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا فِيهِ وَلَا يُكَلَّفُ إخْرَاجَهَا قَبْلَ إلْقَاءِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ. اهـ. سم عَلَى ابْنِ حَجَرٍ.
قَوْلُهُ: (لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ) قَدَّمَ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ لِعُمُومِهِ.
قَوْلُهُ: (إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ إلَخْ) سُمِّيَ ذُبَابًا لِكَثْرَةِ حَرَكَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ وَعُمُرُهُ الْغَالِبُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَكُلُّهُ فِي النَّارِ إلَّا النَّحْلَ وَكَوْنُهُ فِي النَّارِ لَيْسَ تَعْذِيبًا لَهُ بَلْ لِيُعَذَّبَ أَهْلُ النَّارِ بِهِ وَهُوَ أَطْمَعُ الْأَشْيَاءِ، حَتَّى إنَّهُ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ فِيهِ هَلَاكُهُ وَلَا جَفْنَ لِلذُّبَابَةِ لِصِغَرِ حَدَقَتِهَا. وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ أَنَّ رَجِيعَهُ يَقَعُ عَلَى الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ أَسْوَدَ وَبِالْعَكْسِ، وَأَكْثَرُ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْعُفُونَةِ وَمَبْدَأُ خَلْقِهِ مِنْهَا، ثُمَّ مِنْ التَّوَالُدِ وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الطُّيُورِ سِفَادًا، وَرُبَّمَا بَقِيَ عَامَّةَ الْيَوْمِ عَلَى الْأُنْثَى. وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ الشَّافِعِيَّ لِأَيِّ عِلَّةٍ خُلِقَ الذُّبَابُ؟ فَقَالَ: مَذِلَّةٌ لِلْمُلُوكِ وَكَانَتْ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ ذُبَابَةٌ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَأَلَنِي وَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي جَوَابٌ فَاسْتَنْبَطْته مِنْ الْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ. وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: سَلُونِي عَمَّا دُونَ الْعَرْشِ أُخْبِرْكُمْ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَمْعَاءُ الذُّبَابِ فِي مُقَدَّمِهَا أَمْ مُؤَخَّرِهَا؟ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ. قَالَ السُّيُوطِيّ: وَفِي تَارِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ مُسْنَدًا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى جَسَدِهِ وَثِيَابِهِ ذُبَابٌ أَصْلًا» اهـ مِنْ حَاشِيَةِ الْعَلْقَمِيِّ عَلَى الْجَامِعِ.
قَوْلُهُ: (فَلْيَغْمِسْهُ) أَمْرٌ إرْشَادِيٌّ لِمُقَابَلَةِ الدَّاءِ بِالدَّوَاءِ، وَفِي قَوْلِهِ كُلِّهِ دَفْعُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِغَمْسِ بَعْضِهِ فَلَا يُكْتَفَى بِغَمْسِ الْجَنَاحَيْنِ، وَإِنْ حَصَلَ الشِّفَاءُ بِالْجَنَاحِ الْآخَرِ، وَهَلْ يُكْتَفَى بِانْغِمَاسِهِ بِنَفْسِهِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ. وَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ وَمَحَلُّ جَوَازِ الْغَمْسِ أَوْ اسْتِحْبَابِهِ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ التَّغَيُّرُ بِهِ، وَإِلَّا حَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ. قَالَ الزِّيَادِيُّ: وَالْغَمْسُ خَاصٌّ بِالذُّبَابِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيَحْرُمُ غَمْسُهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِهِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ إلَخْ) يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ أَحَدُهُمَا لَا غَمْسَ، وَبِالْأَوْلَى إذَا قُطِعَا. كَذَا قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا. قُلْت: وَيَحْتَمِلُ الْغَمْسُ مُطْلَقًا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ الْجَنَاحَ أَوْ أَصْلَهُ اج. وَعِبَارَةُ ع ش عَلَى م ر: وَعَلَيْهِ فَلَوْ قُطِعَ جَنَاحُهَا الْأَيْسَرُ لَا يُنْدَبُ غَمْسُهَا لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، بَلْ قِيَاسُ مَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنْ حُرْمَةِ غَمْسِ غَيْرِ الذُّبَابِ حُرْمَةُ غَمْسِ هَذِهِ الْآنَ لِفَوَاتِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْغَمْسِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ يَجْعَلُهَا وِقَايَةً أَيْ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي الْوُقُوعِ.
قَوْلُهُ: (وَقِيسَ بِالذُّبَابِ) أَيْ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ التَّنْجِيسِ لَا مِنْ حَيْثُ الْغَمْسُ فَإِنَّهُ حَرَامٌ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِهِ فَلَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (اُمْتُحِنَ بِجِنْسِهَا) أَيْ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ جِنْسِهَا، لِأَنَّ الْجِنْسَ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ لَا تُوجَدُ إلَّا فِي ضِمْنِ أَفْرَادِهَا وَمَحَلُّهُ إذَا وُجِدَ الْجِنْسُ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ قَاسِمٍ إنَّ الْمُتَّجِهَ الْعَفْوُ قَالَ كَمَا وَافَقَ عَلَيْهِ م ر. لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ، وَقَدْ قَالُوا فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ لَوْ شَكَّ فِي كَثْرَةِ الدَّمِ لَمْ يَضُرَّ اهـ.
قَالَ ع ش عَلَى م ر بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ سم. أَقُولُ: وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِيهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا وَسُقُوطُهُ رُخْصَةٌ لَا يُصَارُ إلَيْهَا إلَّا بِيَقِينٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الشَّارِحِ الْآتِي: فَلَوْ شَكَّ هَلْ وَقَعَ فِي حَالِ الْحَلْبِ أَوْ لَا. فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ يَنْجُسُ إذْ شَرْطُ الْعَفْوِ لَمْ نَتَحَقَّقْهُ اهـ. وَلَك أَنْ تَقُولَ لَا تَأْيِيدَ فِيهِ لِمَا هُنَا، لِأَنَّ ذَاكَ تَحَقَّقْنَا فِيهِ أَنَّ الْوَاقِعَ مُنَجِّسٌ وَلَا كَذَلِكَ هُنَا. فَتَأَمَّلْ، وَقَدْ اسْتَقْرَبَ الْمَحَلِّيُّ الْحُكْمَ بِالنَّجَاسَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَوْلُهُ: (قَالَ الْغَزَالِيُّ) مُعْتَمَدٌ.
قَوْلُهُ: (لَا يُشَاهَدُ بِالْبَصَرِ) أَيْ مَا لَمْ يُطْرَحْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّعْلِيلُ بِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْبَهِيمَةَ لَوْ