ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى إِعْرَاضَ قَوْمِهِ عَنْهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنَ الله مَا يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ وَذَلِكَ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَجَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ كَثِيرٍ أَهْلُهُ وَأَحَبَّ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مِنَ الله شَيْءٌ يَنْفِرُوا عَنْهُ وَتَمَنَّى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى سُورَةَ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: ١] فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النَّجْمِ: ١٩، ٢٠] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ «تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى مِنْهَا الشَّفَاعَةُ تُرْتَجَى» فَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ فَرِحُوا وَمَضَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَتِهِ فَقَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا فَسَجَدَ وَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ لِسُجُودِهِ وَسَجَدَ جَمِيعُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ إِلَّا سَجَدَ سِوَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي فَإِنَّهُمَا أَخَذَا حَفْنَةً مِنَ التُّرَابِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَرَفَعَاهَا إِلَى/ جَبْهَتَيْهِمَا وَسَجَدَا عَلَيْهَا لِأَنَّهُمَا كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِيعَا السُّجُودَ وَتَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ وَقَدْ سَرَّهُمْ مَا سَمِعُوا وَقَالُوا قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ الله وَقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟! فَحَزِنَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزْنًا شَدِيدًا وَخَافَ مِنَ الله خَوْفًا عَظِيمًا حَتَّى نَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الْآيَةَ.هَذَا رِوَايَةُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ الظَّاهِرِيِّينَ، أَمَّا أَهْلُ التَّحْقِيقِ فَقَدْ قَالُوا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بَاطِلَةٌ مَوْضُوعَةٌ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الْحَاقَّةِ: ٤٤ - ٤٦]، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [يُونُسَ: ١٥] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فَلَوْ أَنَّهُ قَرَأَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الغرانيق العلى لَكَانَ قَدْ ظَهَرَ كَذِبُ الله تَعَالَى فِي الْحَالِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٧٣] وَكَلِمَةُ كَادَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَعْنَاهُ قَرُبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٧٤] وَكَلِمَةُ لَوْلَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرُّكُونَ الْقَلِيلَ لَمْ يَحْصُلْ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: ٣٢]. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: ٦]. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ هَذَا وُضْعٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ وَصَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بن الحسن الْبَيْهَقِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ ثُمَّ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِي أَنَّ رُوَاةَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَطْعُونٌ فِيهِمْ، وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ وَسَجَدَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثُ الْغَرَانِيقِ. وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَلَيْسَ فِيهَا الْبَتَّةَ حَدِيثُ الْغَرَانِيقِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ جَوَّزَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمَ الْأَوْثَانِ فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَعْظَمَ سَعْيِهِ كَانَ فِي نَفْيِ الْأَوْثَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ آمِنًا أَذَى الْمُشْرِكِينَ لَهُ حَتَّى كَانُوا رُبَّمَا مَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي إِذَا لَمْ يَحْضُرُوهَا لَيْلًا أَوْ فِي أَوْقَاتِ خَلْوَةٍ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُعَادَاتَهُمْ لِلرَّسُولِ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُقِرُّوا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ دُونَ أَنْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَظَّمَ آلِهَتَهُمْ حَتَّى خَرُّوا سُجَّدًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ عِنْدَهُمْ مُوَافَقَتَهُ لَهُمْ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِحْكَامَ الْآيَاتِ بِإِزَالَةِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ عَنِ الرَّسُولِ أَقْوَى مِنْ نَسْخِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي تَبْقَى الشُّبْهَةُ مَعَهَا، فَإِذَا أَرَادَ الله إِحْكَامَ الْآيَاتِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا، فَبِأَنْ يُمْنَعَ الشَّيْطَانُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا أَوْلَى وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَقْوَى الْوُجُوهِ/ أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ ارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنْ شَرْعِهِ وَجَوَّزْنَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَيَبْطُلُ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: ٦٧] فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ النُّقْصَانِ عَنِ الْوَحْيِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ عَرَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَوْضُوعَةٌ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهَا لَكِنَّهُمْ مَا بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ الدَّلَائِلَ النَّقْلِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَلْنَشْرَعِ الْآنَ فِي التَّفْصِيلِ فَنَقُولُ التَّمَنِّي جَاءَ فِي اللُّغَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَمَنِّي الْقَلْبِ وَالثَّانِي: الْقِرَاءَةُ قَالَ الله تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الْبَقَرَةِ: ٧٨] أَيْ إِلَّا قِرَاءَةً لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَا يَعْلَمُ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُصْحَفِ وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ قِرَاءَةً، وَقَالَ حَسَّانُ:تَمَنَّى كِتَابَ الله أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِقِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِرَاءَةُ أُمْنِيَّةً لِأَنَّ الْقَارِئَ إِذَا انْتَهَى إِلَى آيَةِ رَحْمَةٍ تَمَنَّى حُصُولَهَا وَإِذَا انْتَهَى إِلَى آيَةِ عَذَابٍ تَمَنَّى أَنْ لَا يُبْتَلَى بِهَا، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ التَّمَنِّي هُوَ التَّقْدِيرُ وَتَمَنَّى هُوَ تَفَعَّلَ مِنْ مُنِيتُ وَالْمَنِيَّةُ وَفَاةُ الْإِنْسَانِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ الله تَعَالَى، وَمَنَى الله لَكَ أَيْ قَدَّرَ لَكَ. وَقَالَ رُوَاةُ اللُّغَةِ الْأَمْنِيَّةُ الْقِرَاءَةُ وَاحْتَجُّوا بِبَيْتِ حَسَّانَ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ التَّالِيَ مُقَدِّرٌ لِلْحُرُوفِ وَيَذْكُرُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الْأَمْنِيَّةَ، إِمَّا الْقِرَاءَةُ، وَإِمَّا الْخَاطِرُ، أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْقِرَاءَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَسْهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَيَشْتَبِهَ عَلَى الْقَارِئِ دُونَ مَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ وُقُوعُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي قِرَاءَتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى وَلَا الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ بِهِ وَلَا أَحَدٌ تَكَلَّمَ بِهِ لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْكُفَّارِ فَحَسِبُوا بَعْضَ أَلْفَاظِهِ مَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِمْ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ مِنْ تَوَهُّمِ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى غَيْرِ مَا يُقَالُ وَهَذَا الوجه ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّوَهُّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِسَمَاعِهِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمَسْمُوعِ فَلَا يَقَعُ ذَلِكَ فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ هَذَا التَّوَهُّمُ لِبَعْضِ السَّامِعِينَ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّ الْعَادَةَ مَانِعَةٌ مِنَ اتِّفَاقِ الْجَمِّ الْعَظِيمِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى خَيَالٍ وَاحِدٍ فَاسِدٍ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى الشَّيْطَانِ الوجه الثَّانِي: قَالُوا إِنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ كَلَامُ شَيْطَانِ الْجِنِّ وَذَلِكَ بِأَنْ تَلَفَّظَ بِكَلَامٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْقَعَهُ فِي دَرَجِ تِلْكَ التِّلَاوَةِ فِي بَعْضِ وَقَفَاتِهِ لِيُظَنَّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ مُتَكَلِّمُونَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْتِيَ الشَّيْطَانُ بِصَوْتٍ مِثْلِ صَوْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِنْدَ سُكُوتِهِ فَإِذَا سَمِعَ الْحَاضِرُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ بِصَوْتٍ مِثْلِ صَوْتِ الرَّسُولِ وَمَا رَأَوْا شَخْصًا آخَرَ ظَنَّ الْحَاضِرُونَ أَنَّهُ كَلَامُ/ الرَّسُولِ، ثُمَّ هَذَا لَا يَكُونُ قَادِحًا فِي النُّبُوَّةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لَهُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَشْتَبِهُ عَلَى كُلِّ السَّامِعِينَ كَوْنُهُ كَلَامًا لِلرَّسُولِ بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الرَّسُولُ فَيُفْضِي إِلَى ارْتِفَاعِ الْوُثُوقِ عَنْ كُلِّ الشَّرْعِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ في الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ الله تَعَالَى أَنْ يُشْرَحَ الْحَالُ فِيهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِزَالَةً لِلتَّلْبِيسِ، قُلْنَا لَا يَجِبُ عَلَى الله إِزَالَةُ الِاحْتِمَالَاتِ كَمَا فِي الْمُتَشَابِهَاتِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الله ذَلِكَ تَمَكَّنَ الِاحْتِمَالُ مِنَ الْكُلِّ الوجه الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ بَعْضُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَهُمُ الْكَفَرَةُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْتَهَى فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرَ أَسْمَاءَ آلِهَتِهِمْ وَقَدْ عَلِمُوا مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَعِيبُهَا فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْقَوْمِ لِكَثْرَةِ لَغَطِ الْقَوْمِ وَكَثْرَةِ صِيَاحِهِمْ وَطَلَبِهِمْ تَغْلِيطَهُ وَإِخْفَاءَ قِرَاءَتِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاتِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرُبُونَ مِنْهُ فِي حَالِ صَلَاتِهِ وَيَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ وَيَلْغُونَ فِيهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا تَلَا الْقُرْآنَ عَلَى قُرَيْشٍ تَوَقَّفَ فِي فُصُولِ الْآيَاتِ فَأَلْقَى بَعْضُ الْحَاضِرِينَ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الْوَقَفَاتِ فَتَوَهَّمَ الْقَوْمُ أَنَّهُ مِنْ قِرَاءَةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَضَافَ الله تَعَالَى ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ يَحْصُلُ أَوَّلًا وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمَ فِي نَفْسِهِ شَيْطَانًا وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ وَتَصْرِيحُ الْحَقِّ وَتَبْكِيتُ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَإِظْهَارُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْهُ صَدَرَتْ وَثَانِيهِمَا: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالنَّقْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَفْعَلِ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَدَّى السُّورَةَ بِكَمَالِهَا إِلَى الْأُمَّةِ مِنْ دُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى التَّلْبِيسِ كَمَا يُؤَدِّي سَهْوُهُ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ وَصَفَهَا إِلَى اللَّبْسِ، قُلْنَا إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي زَمَانِ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ تَأْتِيهِ الْآيَاتُ فَيُلْحِقُهَا بِالسُّورِ فَلَمْ يَكُنْ تَأْدِيَةُ تِلْكَ السُّورَةِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ سَبَبًا لِزَوَالِ اللَّبْسِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اسْتَحَقَّ الْعِتَابَ مِنَ الله تَعَالَى عَلَى مَا رَوَاهُ الْقَوْمُ الوجه الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ سَهْوًا أَوْ قَسْرًا أَوِ اخْتِيَارًا أَمَّا الوجه الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ سَهْوًا فَكَمَا يُرْوَى عَنْ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهُمَا قَالَا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَنَعَسَ وَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ السُّورَةِ سَجَدَ وَسَجَدَ كُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِمَا سَمِعُوهُ وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَقْرَأَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْغَرَانِيقِ قَالَ لَمْ آتِكَ بِهَذَا، فَحَزِنَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا السَّهْوُ لَجَازَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَحِينَئِذٍ تَزُولُ الثِّقَةُ عَنِ الشَّرْعِ وَثَانِيهَا: أَنَّ السَّاهِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُطَابِقَةِ لِوَزْنِ السُّورَةِ وَطَرِيقَتِهَا وَمَعْنَاهَا، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ وَاحِدًا لَوْ أَنْشَدَ قَصِيدَةً لَمَا جَازَ أَنْ يَسْهُوَ حَتَّى يَتَّفِقَ مِنْهُ بَيْتُ شِعْرٍ فِي وَزْنِهَا وَمَعْنَاهَا وَطَرِيقَتِهَا وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّهُ تَكَلَّمَ/ بِذَلِكَ سَهْوًا، فَكَيْفَ لَمْ يُنَبَّهْ لِذَلِكَ حِينَ قَرَأَهَا عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ أَمَّا الوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ قَسْرًا وَهُوَ الَّذِي قَالَ قَوْمٌ إِنَّ الشَّيْطَانَ أَجْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا فَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكَانَ اقْتِدَارُهُ عَلَيْنَا أَكْثَرَ فَوَجَبَ أَنْ يُزِيلَ الشَّيْطَانُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ وَلَجَازَ فِي أَكْثَرِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِجْبَارِ الشَّيَاطِينِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى هَذَا الْإِجْبَارِ لَارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنِ الْوَحْيِ لِقِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ الشَّيْطَانِ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٢] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [النَّحْلِ: ٩٩، ١٠٠] وَقَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الْحِجْرِ: ٤٠] وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ سَيِّدَ الْمُخْلَصِينَ أَمَّا الوجه الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تكلم بذلك اختيارا فههنا وَجْهَانِ:أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بَاطِلَةٌ وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ إِنَّهَا لَيْسَتْ كَلِمَةً بَاطِلَةً أَمَّا عَلَى الوجه الْأَوَّلِ فَذَكَرُوا فِيهِ طَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ:قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ إِنَّ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْأَبْيَضُ أَتَاهُ عَلَى صُورَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَلْقَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَقَرَأَهَا فَلَمَّا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ أَعْجَبَهُمْ فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَعْرَضَهُ فَقَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَا مَا جِئْتُكَ بِهَذِهِ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ أَتَانِي آتٍ عَلَى صُورَتِكَ فَأَلْقَاهَا عَلَى لِسَانِيالطَّرِيقُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ الْقَوْمِ أَدْخَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ لَا يَرْغَبُ فِيهِمَا مُسْلِمٌ الْبَتَّةَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَلَكِ الْمَعْصُومِ وَالشَّيْطَانِ الْخَبِيثِ وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ خَائِنًا فِي الْوَحْيِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ أَمَّا الوجه الثَّانِي: وَهُوَ أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أَيْضًا طُرُقٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ الْغَرَانِيقُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا مُنَزَّلًا فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ. فَلَمَّا تَوَهَّمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ يُرِيدُ آلِهَتَهُمْ نَسَخَ الله تِلَاوَتَهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَشَفَاعَتُهُنَّ تُرْتَجَى؟ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ ذَكَرَ الْإِثْبَاتَ وَأَرَادَ النَّفْيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: ١٧٦] أَيْ لَا تَضِلُّوا كَمَا قَدْ يَذْكُرُ النَّفْيَ وَيُرِيدُ بِهِ الْإِثْبَاتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الْأَنْعَامِ: ١٥١] وَالْمَعْنَى أَنْ تُشْرِكُوا، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظْهِرُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فِي جُمْلَةِ الْقُرْآنِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّينِ أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الله تَعَالَى قَدْ نَصَبَهُمْ حُجَّةً وَاصْطَفَاهُمْ لِلرِّسَالَةِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَطْعَنُ فِي ذَلِكَ أَوْ يُنَفِّرُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّنْفِيرِ أَعْظَمُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حثه الله تعالى على تركها كنحو لفظاظة وَالْكِتَابَةِ وَقَوْلِ الشِّعْرِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ/ فِي قَوْلِهِ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا قَدْ ظَهَرَ عَلَى القطع كذبها، لهذا كُلُّهُ إِذَا فَسَّرْنَا التَّمَنِّيَ بِالتِّلَاوَةِ. وَأَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْخَاطِرِ وَتَمَنِّي الْقَلْبِ فَالْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى تَمَنَّى بَعْضَ مَا يَتَمَنَّاهُ مِنَ الْأُمُورِ يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ بِالْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُ إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي ثُمَّ إِنَّ الله تَعَالَى يَنْسَخُ ذَلِكَ وَيُبْطِلُهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى وَسْوَسَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَتَمَنَّى مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِالثَّنَاءِ قَالُوا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ وَكَانَ يُرَدِّدُ ذلك في نفسه فعند ما لَحِقَهُ النُّعَاسُ زَادَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا أَيْضًا خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ وَبَيَانُهُ مَا تَقَدَّمَ وَثَانِيهَا: مَا قَالَ مُجَاهِدٌ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَمَنَّى إِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ عَلَى سُرْعَةٍ دُونَ تَأْخِيرٍ فَنَسَخَ الله ذَلِكَ بِأَنْ عَرَّفَهُ بِأَنَّ إِنْزَالَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ فِي الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ وَغَيْرِهَا وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ كَانَ يَتَفَكَّرُ فِي تَأْوِيلِهِ إِنْ كَانَ مُجْمَلًا فَيُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي جُمْلَتِهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْسَخُ ذَلِكَ بِالْإِبْطَالِ وَيَحْكُمُ مَا أَرَادَهُ الله تَعَالَى بِأَدِلَّتِهِ وَآيَاتِهِ وَرَابِعُهَا: مَعْنَى الْآيَةِ (إِذَا تَمَنَّى) إِذَا أَرَادَ فِعْلًا مُقَرَّبًا إِلَى الله تَعَالَى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي فِكْرِهِ مَا يُخَالِفُهُ فَيَرْجِعُ إِلَى الله تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: ٢٠١] وَكَقَوْلِهِ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ [الْأَعْرَافِ: ٢٠٠] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأُمْنِيَّةِ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِتْنَةً لِلْكُفَّارِ وَذَلِكَ يُبْطِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَالْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ إِذَا قَوِيَ التَّمَنِّي اشْتَغَلَ الْخَاطِرُ بِهِ فَحَصَلَ السَّهْوُ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ بِسَبَبِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِتْنَةً لِلْكُفَّارِ فَهَذَا آخِرُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ المسألة. اهـ (مفاتيح الغيب ٢٣/ ٢٣٧ - ٢٤١)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute