للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما الوجدان فهو: دوام حلاوة الشهود، واتصالها للواجد مع غلبة السُّكر والدَّهش فإن استمر مع ذلك حتى زالت الدَّهشة والحيرة وصفيت الفكرة والنظرة فهو الوجود، والسماع هو مَثَار الوُجد، أي سماع خطاب المحبوب، ومَثَار الوُجدان، هو شهود جمال المحبوب، ... ومثال ذلك الطفل في المهد، فإنه يسكن إذا تحرَّك به المهد، ويبكي إذا سكن، كذلك القلب يرتاح إذا تحرَّك القلب، وإلا بقي يضطرب فربما يخرج عن طوره.

وأمَّا صاحب الوُجد فهو ساكنٌ متمكِّن قد استأنس بالحضرة، فربما يخرج عن طوره، وأمَّا صاحِبُ الوجدان فهو ساكنٌ متمكِّن قد استأنس بالحضرة، وزالت عنه الدهشة والحيرة فهو كالجبل الرَّاسي، قيل للجنيد: ما لك؛ كنت تتواجد عند السماع ثم صرت لا يتحرَّك منك شيء؟ فتلا قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (١).

وشاهد ذلك صواحِب يوُسُف - عليه السلام -، فإنه لما فاجأهنَّ بباهر جماله: غبن عن إحساسهن {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (٢).

وكذلك أرباب الوجدان لما استشرفوا على نُور الحضرة، دهشُوا وغابوا عن إحساسهم، فإذا تمكَّنوا من شهودها وأنسوا بها لم يحركهم شيءٌ من أنوارها، وقد يغلب على العارف شهود الجمال فيرقص ويطرب لكنه نادر" (٣).

ثم إنَّ الوارد الذي يحرك القلب ويزعجه عند ابن عجيبة يأتي عن طريق السماع


(١) سورة النمل: ٨٨.
(٢) سورة يوسف: ٣١.
(٣) ينظر: شرح خمرية ابن الفارض، ص ٢٠ - ٢١.

<<  <   >  >>