ولهذا قال عنهم ابن تيمية - رحمه الله -: "وأمَّا التفويض فإنَّه من المعلوم أنَّ الله - عز وجل - أمرنا أن نتدبَّر القرآن، وحضَّنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منَّا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟ فعلى قول هؤلاء: يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذٍ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلامًا لا يعقلون معناه ... ومعلومٌ أنَّ هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنَّه جعله هدىً وبيانًا للناس، وأمر الرسول أن يبلِّغ البلاغ المبين، وأن يبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، وأمر بتدبُّر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه -وهو ما أخبر به الرَّبُّ عن صفاته، أو عن كونه خالقًا لكلِّ شيء، وهو بكلِّ شيءٍ عليم، أو عن كونه أمر ونهى، ووعد وتوعَّد، أو عمَّا أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبّر، ولا يكون الرَّسول بيَّن للناس ما نُزِّل إليهم، ولا بلَّغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كلُّ ملحدٍ ومبتدعٍ: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأنَّ تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحدٌ معناها، وما لا يعلم أحدٌ معناه لا يجوز أن يُستدلَّ به.
فيبقي هذا الكلام سدًّا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحًا لباب من يعارضهم ويقول: إنَّ الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأنَّا نحن نعلم ما نقول ونبيِّنه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلًا عن أن يبيِّنوا مرادهم.
فتبيَّن أنَّ قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شرِّ أقوال أهل البدع والإلحاد" (١).