للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وابن عجيبة سلك طريقة المتكلِّمين التي مفادها التفصيل في النفي والإجمال في الإثبات، وهي طريقةٌ مخالفة للقرآن وللعقل؛ أمَّا مخالفتها للعقل: فلأنَّ النفيَ الذي يستعملونه هو النفي المحض، الذي لا يدلُّ على الكمال، ولا يتضمَّن أمرًا ثبوتيًّا، فهو نوعٌ من التعطيل؛ ولهذا فإنَّ من فقه السَّلف - رحمهم الله - أنَّهم سمَّوا أصحاب هذا المذهب بالمعطلة؛ لأنَّ من استعمل النفي المحض فإنَّه ينتهي إلى التعطيل؛ لأنَّ الأشياء المعدومة والممتنعة تشترك في هذا النفي، ومن أخص القواعد الشرعية والعقلية: أنَّ كلَّ موجودٍ لا بدَّ أن يكون له صفات تليق به، والله - سبحانه وتعالى - هو الخالق البارئ، الذي خلق الخلق وأبدع الكائنات، فلا بدَّ أن يكون له من الصفات ما يحصل بها هذا الكمال (١).

وليس في كتاب الله - عز وجل - ولا في السُّنَّة نفيٌ محضٌ؛ فإنَّ النفي الصرف لا مدح فيه، وإنَّما يُراد بكلِّ نفيٍ فيهما إثبات ما يضاده من الكمال، فنفي الشريك والنِّد لإثبات كمال عظمته وتفرُّده بصفات الكمال، ونفي العجز لإثبات كمال قدرته، ونفي الجهل لإثبات سعة علمه وإحاطته، ونفي الظلم لإثبات كمال عدله، ونفي العبث لإثبات كمال حكمته، ونفي السِّنَة والنوم والموت لإثبات كمال حياته وقيُّومِيَّتِه، وهكذا.

ولهذا كان النَّفي في الكتاب والسُّنَّة إنما يأتي مجملًا في أكثر أحواله، بخلاف الإثبات؛ فإنَّ التفصيل فيه أكثر من الإجمال؛ لأنَّه مقصودٌ لذاته.

وأمَّا الإجمال في الإثبات فمثل إثبات الكمال المطلق، والحمد المطلق، والمجد المطلق، ونحو ذلك، كما يشير إليه مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (٢).


(١) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص ١٩.
(٢) سورة الفاتحة: ٢.

<<  <   >  >>