للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولقد فسَّر ابن عجيبة قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (١) بقوله: "الحرم الآمن في هذه الدار هو التبتُّل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها، والتجرُّد من أسبابها" (٢).

وهذا التفسير مخالفٌ لتفسير العلماء المحققين، قال ابن كثير - رحمه الله -: "يقول تعالى ممتنًّا على قريش فيما أحلَّهم من حرمه الذي جعله للنَّاس سواءً العاكف فيه والباد، ومن دخله كان آمنا فهم في أمنٍ عظيم، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (٣) " (٤).

وتفسير ابن عجيبة المخالف للآية جاء نتيجة المجاهدة والرياضة التي كان عليها ابن عجيبة فقد "كان قليل اللحم، يابس الجلد على العظم؛ من كثرة المجاهدة والزهد والورع، ويلبس جلابة مرتقعة" (٥)، فهو يصف نفسه عندما تكون تلك حالته بقوله: "ولقد كنتُ في حال الرياضة والمجاهدة إذا أردت أن أتكلَّم في التفسير، أو غيره أشرع في الكلام، ثم أغيب (٦)، فكنت أحس بالكلام يخرج مني من غير اختيار كأنه السَّحاب، فتصدر مني علومٌ وحِكَم، فإذا سكت لم يبق منه إلا القليل" (٧).


(١) سورة العنكبوت: ٦٧.
(٢) البحر المديد ٤/ ٣٢١.
(٣) سورة قريش: ١ - ٤.
(٤) تفسير ابن كثير ٦/ ٢٦٥، وينظر: المحرر الوجيز ٤/ ٣٢٥، والبحر المحيط ٣/ ٢٧٣.
(٥) ينظر: مخطوط كنز الأسرار، للمعسكري، ص ٣١، وهذه مسالك الصوفية المبتدعة التي لم ترد في الشرع.
(٦) غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق؛ لاشتغال الحس بما ورد عليه، ثم قد يغيب عن إحساسه بنفسه وغيره بوارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب. ينظر: الرسالة القشيرية، ص ٦٣.
(٧) إيقاظ الهمم، ص ٣٦٦.

<<  <   >  >>