[مشيئة الله ومشيئة العبد عند أهل السنة]
إن من أهم أمور العقيدة معرفة الله تعالى والإيمان به، وذلك يستدعي الإيمان بوجود الله وبكمال قدرته، وبكمال تصرفه في خلقه، وكذلك الإيمان بأسمائه وصفاته التي هي أسماء حسنى وصفات علا، والتي هي صفات كمال ونعوت جلال، وما سوى ذلك فإنه يعتبر تابعاً لبقية أركان الإيمان، وكذلك أمور العقيدة تابعة للإيمان بالله، وذلك لأن من آمن بالله تعالى وبصفاته وبوحدانيته وبكماله استدعى ذلك عبادته، واستدعى ذلك طاعته وحده، وتصديق رسله الذين بلغوا عنه، واستدعى ذلك وحدانيته وتوحيده، وإخلاص العبادة له، وما يتفرع عن ذلك من الأعمال تابع لهذا الاعتقاد.
قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، كما قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٩] .
ويقولون: لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله، ولا أن يغلب فعله وإرادته مشيئة الله، ولا أن يبدل علم الله، فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو، والقادر لا يغلب.
ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنه كيفما تصرف بقراءة القراء له وبلفظه فإنه كلام الله، وأنه محفوظ في الصدور، متلو بالألسن، مكتوب في المصاحف غير مخلوق، ومن قال بخلق اللفظ في القرآن يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن] .
قال المعلق جزاه الله خيراً: مسألة اللفظ في القرآن اضطرب فيها أقوام من أهل الحديث والسنة، قال ابن قتيبة في كتاب (الاختلاف في اللفظ) : ثم انتهى بنا القول إلى ذكر غرضنا من هذا الكتاب وغايتنا من اختلاف أهل الحديث في اللفظ بالقرآن وتشانئهم وإكفار بعضهم بعضاً، وليس مما اختلفوا فيه مما يقطع الألفة، ولا مما يوجب الوحشة؛ لأنهم مجموعون على أصل واحد وهو: القرآن كلام الله غير مخلوق.
وقال ابن القيم: وأئمة السنة والحديث يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب، والقرآن عندهم جميعه كلام الله؛ حروفه ومعانيه، وأصوات العباد وحركاتهم وأداؤهم وتلفظهم كل ذلك مخلوق بائن عن الله.
إلى أن قال: البخاري أعلم بهذه المسألة، وأولاه بالصواب فيها من جميع من خالفه، وكلامه أوضح وأمتن من كلام أبي عبد الله، فإن الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفياً وإثباتاً على اللفظ إلى أن قال: والذي قصده أحمد أن اللفظ يراد به أمران: أحدهما: الملفوظ نفسه، وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له.
الثاني: التلفظ به والأداء له فعل العبد.
فإطلاق الخلق على اللفظ قد يوهم المعنى الأول، وهو خطأ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني، فمنع الإطلاقين، وأبو عبد الله البخاري ميز وفصل، وأشبع الكلام في ذلك، وفرق بين ما قام في الرب وبين ما قام في العبد، وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأكسابهم، ونفى اسم الخلق عن الملفوظ، وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من الله، وسمعه محمد من جبرائيل.
تنبيه: لقد زعم كثير من أهل الأهواء أن الإمام البخاري قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
ولكن بعد التحقيق تبين أن نسبة هذا القول للإمام البخاري رحمه الله من قبل شهادة الزور عليه، وأنه براء من هذه المقالة، ولقد صرح الإمام البخاري نفسه أن من قال: إني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب عليَّ.
قال محمد بن نصر: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: من زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله.
فقلت له: يا أبا عبد الله! قد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه! فقال: ليس إلا ما أقول.
وقال أبو عمرو الخفاف: أتيت البخاري فناظرته في الأحاديث حتى طابت نفسه، فقلت: يا أبا عبد الله! هاهنا أحد يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة.
فقال: يا أبا عمرو! احفظ ما أقول لك: من زعم من أهل نيسابور وقومك والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة.
فالثابت عنه أنه قال: أفعالنا مخلوقة.
فيدخل في هذا تلفظ القارئ بالقرآن، وكتابة الكاتب لألفاظ القرآن، وحفظ الحافظ للقرآن، وجهر القارئ بالقرآن، وحسن صوته وتغنيه بالقرآن، فهي أمور مخلوقة؛ لأنها من أفعال العباد، فهذا ما ذهب إليه رحمه الله، وهذا تفصيله في المسألة فتأمل.