[أثر العمل الصالح في دخول صاحبه الجنة]
مما يتعلق بالأعمال كون العمل لا يستقل بإدخال صاحبه الجنة، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:٢١] ، فقد أخبر الله تعالى بأنه المتفضل على عباده، وأنه لولا تفضله عليهم ما زكوا ولا تزكوا ولا عملوا، ولكنه تعالى تفضل على هؤلاء فهداهم، وله النعمة والفضل عليهم، ومن الذكر الذي ورد بعد دبر كل صلاة أن يقول العبد: (لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن) ، فله المن على عباده والفضل عليهم.
ولما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يعدد على الأنصار خصالهم التي تميزوا بها كان يذكرهم ويقول: (ألا تقولون: جئتنا وحيداً فنصرناك، وجئتنا طريداً فآويناك؟) فأخذوا يقولون: الله ورسله أمنَّ، المنة لله ولرسوله.
فحقاً لله المنة على عباده، وله الفضل عليهم، فإذا أنعم على بعض العباد فهداهم وأقبل بقلوبهم على طاعته فإنه المتفضل وله الفضل في ذلك، وإذا خذل بعض العباد وحال بينهم وبين رشدهم، وأضلهم على علم فله الحكمة في ذلك، يقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:٢٣] ، فالله تعالى هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمن هداه الله فقد تفضل عليه، ومن خذله وأضله فقد عامله بعدله.
ولا ينسب إلى الله تعالى ظلم ولا جور، بل هو العادل في عباده، فأعمالهم التي عملوها فضل من الله تعالى، وقد ورد في حديث أنه: (يجاء برجل قد عمل من الحسنات أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: يا رب! ألست أدخلها بأعمالي؟ فعند ذلك يقول الله: حاسبوا عبدي -أي: على نعمي عليه-.
فإذا بدأوا في الحساب يقول الله لنعمة البصر: خذي حقكِ من أعماله.
فتأخذ من أعماله، ثم يقول لنعمة السمع: خذي حقكِ.
فلا تكاد أن تترك من أعماله شيئاً، فعند ذلك يقول الله: ادخلوه النار.
فيقول: يا ربي! بل برحمتك أدخلني الجنة) ، فعند ذلك يدخله الله الجنة ويعترف بأن أعماله التي عمل لا تستقل بإدخاله الجنة مهما كثرت ومهما عظمت.
والأكثر تصريحاً من ذلك الحديث الذي هو قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله -أو: فلن يدخل أحد منكم الجنة بعمله- قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع جده في العمل واجتهاده ونشاطه وجهاده وصلاته وذكره وأعماله وأدعيته، ومع ما حباه الله تعالى به وعصمه من الخطايا والزلات مع ذلك يقول: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، فكيف بمن دونه؟ لا شك أن الأعمال سبب، ولذلك يعلق الله تعالى بها الجزاء على الأعمال سيئها وحسنها، وكثيراً ما يقول: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧] ، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:١٨٢] ، ويقول: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:٢٤] ، فيجعل العمل هو السبب الذي حصلوا به على ذلك الجزاء.
فالأعمال الصالحة هي أسباب للجزاء بالجنة وبالثواب وبرضا الله تعالى، ولكن تلك الأعمال الصالحة أليست فضلاً من الله تعالى؟ هو الذي تفضل على عباده فهداهم، وأقبل بقلوبهم على طاعته، وبصرهم بالحق وهداهم، وأرشدهم وسددهم، وربط على قلبوهم وثبتهم، ولو شاء لأضلهم سيما مع كثرة المضلات، فإنه قد سلط عليهم أنواعاً من المضلات، فإذا أعانهم على تلك الأعداء فثبتوا كان ذلك فضلاً منه ورحمة، فإنه سلط عليهم الأبالسة والشياطين، وحمى أولياءه من الشياطين فضلاً منه، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:٩٩-١٠٠] ، أخبر بأنه ليس له سلطان إلا على من خذلهم الله تعالى وسلطه عليهم.
فأخبر بأنه حمى أولياءه المؤمنين وحال بينه وبينهم، فأعطاهم من الأسلحة ما يقهرونه ويذلونه ويتغلبون به على وساوسه وخطراته، فأمرهم بالاستعاذة منه، وإذا استعاذوا بالله تعالى أعاذهم، وكذلك أمرهم بذكر الله وذكر الله يطرد الشياطين، وأمرهم أن يدعوه حتى يحول بينهم وبين أعدائهم ويحميهم ويعصمهم، وأمرهم بقراءة كلامه أو ما تيسر منه، وقراءته أيضاً سلاح يحول بينهم وبين أعدائهم، فإذا وفقهم وأعانهم على هذه القراءة والأذكار والأدعية والاستعاذة ونحوها صارت معهم أسلحة يفتكون بها في أعدائهم من الشياطين، وتعينهم على قهرهم وقمعهم وإذلالهم.
وسلط عليهم أيضاً أعداء آخرين، كما يقول بعض الشعراء: إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي فهؤلاء الأعداء إنما يتغلب عليهم بتوفيق من الله تعالى ونصر منه وتأييد، فإذا أيده الله تعالى وقواه تقوى على هؤلاء الأعداء وانتصر عليهم، وقوي على أن يمسك نفسه ويقهرها ويقودها إلى طاعة ربه تعالى، وإذا تسلطت عليه نفسه ولم يكن معه ما يقهرها انقاد لشهواته ولهوه وأصبح غير مستقل بأمر الله تعالى ولا قادر على أمر الله تعالى.