[الاستدلال بالقرآن على فضل الصحابة]
وبما أن هذا القرآن أصبح محفوظاً متعبداً بتلاوته، فلابد أن يكون كله حجة وكله دليلاً، فيستدل به على فضلهم، فقد ذكر الله تعالى فضلهم ونوه بمقامهم في عدة سور قرآنية.
ففي سورة المائدة قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:٥٤] .
وفي آخر سورة الأنفال قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:٧٢] إلى آخر السورة، كل ذلك في مدحهم.
وفي سورة التوبة قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ} [التوبة:١٠٠] ، إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:١١٨] .
وكذلك قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:١٢٠] .
وهكذا قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:١١٧] أربعون ألفاً من الصحابة اتبعوه في ساعة العسرة، أي: في غزوته إلى تبوك، هؤلاء قد تاب الله عليهم ورضي عنهم.
وكذلك قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:١٨] .
وكذلك قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر:٨] ، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:٩] ، إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:١٠] .
ونحن نقوله ونرجو أن نكون من المعتقدين له: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:١٠] ، والغل الحقد والحسد والبغضاء، فمن كان في قلبه غل لهم فإنه شقي ليس من أتباعهم حقاً.
وهذه الآيات في سورة الحشر فيمن يستحق الفيء، فإن الآيات في تقسيم الفيء الذمي هو: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:٨] ، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:٩] ، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [الحشر:١٠] ، فالذين جاؤوا من بعدهم إن كانوا يدعون على الصحابة ويكفرون من آمن قبلهم فليسوا من أهل الفيء ولا يستحقونه، هذا استنباط الإمام أحمد رحمه الله.
ثم إن المؤلف استنبط من بعض الآيات خلافة الخلفاء، فمن ذلك الآية التي في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:٥٥] فقوله: (منكم) لا شك أن الخطاب واقع للصحابة، وأن الصحابة هم الذين استخلفوا في الأرض، وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:٥٥] شهادة لهم بأنهم آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم وعدهم بثلاثة أشياء: الأول: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٥] .
الثاني: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:٥٥] ، وهذا قد حصل.
الثالث: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:٥٥] ، وهذا أيضاً قد حصل، فإن الله تعالى قد أبدلهم بعد خوفهم أمناً، فأمنوا بعدما نشروا دين الله تعالى وانتشر الإسلام في أطراف البلاد فأمنت البلاد، فأصبح الناس إخواناً لا يعرض أحد لأحد، يسافر الرجل وحده ولا يعرض له أحد، وقد بشرهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليوشكن أن ترى الظعينة ترحل من عدن حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله) ، وعدن في أقصى اليمن كما هو معروف، وقد وجد ذلك في عهد الصحابة، والظعينة: هي المرأة تركب على بعير لوحدها.
ولو كانت منهية عن السفر، ولكن معناه أنه وجد أمن حتى لو سافرت وحدها لرجعت إلى أهلها دون أن تخاف على شيء أبداً، وهذا واقع أيضاً.
وبكل حال فهذا قد تحقق مبدؤه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعد ذلك في عهد الخلفاء رضي الله تعالى عنهم.
ثم إن الله تعالى أخبرهم بالمنافقين الذين أسلموا ظاهراً ولم يؤمنوا باطناً، وتخلفوا عن غزوة تبوك، وعاتبهم الله تعالى بقوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} [التوبة:٨٣] .
ثم أخبر بأنهم سوف يطلبون الخروج حتى يبدلوا كلام الله: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:١٥] يريدون أن يغيروا كلام الله، فقال له في سورة التوبة: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} [التوبة:٨٣] ، ثم قال في سورة الفتح: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:١٦] ، فمتى دعوا؟ دعوا في عهد الصحابة وعهد الخلفاء الراشدين، {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:١٦] ، فهذا حصل في عهد الخلفاء، أنهم رضي الله عنهم دعوا هؤلاء الأعراب وغيرهم من المتخلفين، فمنهم من أطاع ومنهم من لم يطع، فوعد الله الذي أطاعوا بأن يثيبهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وتوعد الذين تولوا بأن يعذبهم عذاباً أليماً.
والذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحياء خوطبوا بذلك لما تخلفوا عنه، وبقي من هم في خلافة الخلفاء ما أوجب لهم بطاعتهم إياهم الأجر وبترك طاعتهم العذاب إيذاناً من الله بخلافتهم.
ولا شك أن هذه أدلة واضحة على خلافتهم، وكذلك على فضلهم، فيعتقد المسلم أنهم خير الأمة، ولا يكون مثلهم بعدهم، فهم خير قرون الأمة، زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير الناس قرني -أو: القرن الذين بعثت فيهم- ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) .
ولاشك أن هذه التزكية واقعة على الصحابة؛ إذ هم القرن الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحابة خير من الذين بعدهم من تلامذتهم وأولادهم -من حيث العموم-، ولأجل ذلك اتفق العلماء على عدالتهم، فإذا روى الحديث صحابي لم يسألوا عنه، بل يقولون: الصحابة كلهم عدول لا نتردد في أحد منهم؛ وذلك لأن الله تعالى زكاهم في هذه الآيات: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:١٠٠] ، فهذه التزكية تسبب قبول رواياتهم، وتسبب أيضاً الترحم عليهم.
هذا ما يعتقده كل مسلم، ولا عبرة بمن انحرف عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد ذكر شيخ الإسلام: أن أهل السنة وسط في الصحابة بين غلاة وجفاة، ولكن في الحقيقة الغلو والجفاء كله في الرافضة، فإنهم غلوا في حق علي وذريته، وجفوا في حق الباقيين.
فغلوهم في علي وذريته الذين يسمونهم أهل البيت هو أن دعوهم من دون الله، وجعلوهم مقبولي الرواية، وعلقوا عليهم ما ليس لهم، وجفاؤهم في حق الباقين التكفير والتضليل والتنديد بهم، مع أن الخوارج أيضاً قد جفوا في حق علي وكفروه، وكذلك كفروا أكثر الصحابة الذين معه بل أكثر المسلمين، وادعوا أنهم مرتدون، وذلك لأن الخوارج يكفرون بارتكاب الذنب، فصار الخوارج جفاة في حق علي وذريته، والرافضة غلاة في حقهم جفاة في حق بقية الصحابة.