للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القضاء والقدر في عقيدة أهل السنة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقولون: إن الخير والشر والحلو والمر بقضاء من الله عز وجل أمضاه وقدره] .

ورد ذلك أيضاً في الحديث: (أن تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره) أي: تؤمن بأن ما يحدث في الكون كله من الله مقدر، خيره وشره، حلوه ومره، ما يلائمك وما لا يلائمك، وتؤمن بأنه مكتوب عند الله تعالى، فإذا حصل لك رزق، ونعمة وصحة ورفاهية وراحة طيبة وسعة بال فاعلم أنه بقدر من الله وأن الله الذي قدره، وإذا أصبت بهم أو غم أو حزن أو فقر أو مرض أو مصيبة في مال أو بدن أو ولد أو أمر من الأمور التي تجلب لك السوء وتحزنك، فاعلم أنها مكتوبة وأنها مقدرة، وكذلك كل ما يحلو لك أو لا يحلو اعلم أنه من الله وأنه بقضاء من الله تعالى قدره وأمضاه.

قال رحمه الله تعالى: [لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله تعالى] أي: الخلق.

فالله تعالى هو الذي يعطي هؤلاء النفع وهؤلاء الضر، ويقدر عليهم ما قدره.

قال رحمه الله تعالى: [وإنهم فقراء إلى الله عز وجل، لا غنى لهم عنه في كل وقت] .

قال الله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:٣٨] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:١٥] ، وفقر الإنسان فقر لازم ذاتي لا يمكن أن يتغير ولا أن يتحول، يقول شيخ الإسلام: فالفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي فالفقر للإنسان وصف ذاتي، والغنى للرب تعالى وصف ذاتي.

وهذا الكلام الذي ذكره المؤلف في هذه الفقرة يتعلق بالقضاء والقدر، وقد ذكر العلماء أن للقدر درجتين: الدرجة الأولى: أن الله تعالى علم الأشياء قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ.

والدرجة الثانية: أن الله تعالى أراد الأشياء الموجودة ثم خلقها.

فالدرجة الأولى تتضمن العلم والكتابة، والدرجة الثانية تتضمن الإرادة والخلق، ولهذا يقولون: لا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولا يمكن أن يحدث شيء في الوجود إلا بعد إرادة الله تعالى.

ثم إن هذه الدرجة انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قوم أنكروها وقالوا: ليس لله قدرة على أفعال العباد.

وهؤلاء هم المعتزلة، ولهذا يسمون مجوس هذه الأمة، حيث جعلوا مع الله خالقاً، فقالوا: كل أحد يخلق أفعاله، وليس لله قدرة على أفعال العباد.

فجعلوا قدرة العباد أقوى من قدرة الله.

القسم الثاني: طائفة غلت في هذه الدرجة وبالغت فيها، وهم الجبرية الذين جعلوا العبد كالأداة ليس له أي اختيار وليس له أي عمل، ولا تنسب إليه أية حركة، وجعلوا حركة العباد كحركة من ترتعش يده ولا يقدر على إمساكها، وجعلوا حركاته كحركات الشجر الذي تحركه الرياح بغير اختياره، ويسمون الجبرية؛ لأنهم يدعون أن العبد مجبور على أفعاله، وقد رد عليهم أهل السنة وقالوا: إن في هذا القول إبطالاً للشريعة وسلباً للحكمة، وذلك لأن الله تعالى يوجه الأوامر إلى الناس، ويأمر وينهى، ولولا أن للعباد قدرة على أفعالهم لما أمرهم بها، فكيف يقول لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:٧٧] ، وهم مع ذلك لا يقدرون على شيء؟! وكيف يقول لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:١٠٤] وهم لا يقدرون على شيء؟! وكيف يقول لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٨] وهم لا يقدرون على شيء؟! وأيضاً فإن في الغلو في هذه الدرجة مخالفة للعقل، فالذين يدعون أنهم مجبورون على هذه الأفعال مضطربون في ذلك ومخالفون لعقولهم، ثم هم أيضاً مخالفون لواقعهم.

والحاصل أن مثل هؤلاء يحتجون بالقدر على المعاصي، ولكن عندما يعاقبون لا يحتجون به، وفي أبيات لـ ابن القيم في الميمية يقول فيها: وعند مراد الله تفنى كَمَيِّت وعند مراد النفس تسدي وتلحم وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم فجعلهم إذا جاء للناس حظ اهتموا بالأمر وعملوا لأجل حظ النفس، وإذا جاء أمر الله يفنى أحدهم كأنه ميت، وإذا وقع في معصية احتج بالقضاء وبالقدر، ومشهور أن بعض أولئك الزنادقة دخل على شيخ الإسلام ابن تيمية فأنشده أبياتاً يحتج فيها بالقدر أولها: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة وفيها قوله: دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل.

بينوا لي قضيتي قضى بضلالي ثم قال أرض بالقضا فهل أنا راض بالذي فيه شقوتي ولما قرأها شيخ الإسلام وهو جالس عنده بعض تلاميذه أخذ يكتب رداً عليه، فكانوا يحسبون أنه يرد عليه نثراً وإذا هو يرد عليه نظماً، فرد عليه بأبيات زادت على المائة، وأولها: سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية إلى أن قال: وتدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طراً معشر القدرية سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ما رأوا به في الشريعة.

ونحن نقول لهؤلاء الذين يحتجون بالقدر: نعاملكم بما تحتجون به.

ولكنهم لا يقنعون.

ذكر أن رجلاً سرق فجيء به إلى عمر، فقال: أتعاقبني على أمر مقدر ومكتوب علي؟ فقال عمر: أنت سرقت بقدر الله وأنا أقطع يدك بقدر الله.

ولما سافر إلى الشام وذكر له أن الوباء قد وقع في الشام فرجع بأصحابه إلى المدينة قال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟! فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله.

فالله تعالى قدر لنا أننا نذهب ونرجع، فهذا قدر الله.

وفي مثل هذا يقال لهم: نعاقبكم بذلك.

وقد ذكروا أن بعض الخدم كان يقود رجلاً أعمى، فكان يتعثر به في الحفر، فلامه فقال: هذا قدر الله.

فعند ذلك ضربه بعصاه حتى سقط، فقال: كيف تضربني؟ قال: هذا قدر الله.

قدر الله تحتج به فنحن نحتج بالقدر.

مع أنهم لا يحتجون به أيضاً في مصالح أهوائهم، كما ذكر ذلك ابن القيم: وعند مراد الناس تسدي وتلحم.

والحاصل: أن هاتين الفرقتين متضادتان، فرقة المعتزلة الذين أنكروا قدرة الله وفرقة الجبرية الذين أنكروا قدرة العبد.

القسم الثالث: وهم أهل السنة الذين أثبتوا لله تعالى قدرة عامة، وأثبتوا للعبد قدرة تناسبه وهي القدرة الخاصة، وجعلوها مرتبطة بقدرة الله تعالى، ولا تحصل إلا بعد قدرة الله ومشيئته، واستدلوا عليها بالآيات، مثل قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٨-٢٩] ، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:٥٥-٥٦] ، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:١٩] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠] وأشباه ذلك، حيث جعل لهم مشيئة، وجعلوا مشيئتهم مرتبطة بمشيئة الله تعالى، فلذلك نقول: إن مشيئة العباد يتمكنون بها من مزاولة أعمالهم الدينية والدنيوية، فالله تعالى أعطى الإنسان هذه القوة فيحمل الأثقال، ويحرث ويحفر ويغرس، ويتمكن من الأشياء التي تناسبه، فهذه القوة التي أعطاه الله هي التي كلفه لأجلها، ولو كانت قدرة الله محيطة به، فهو أعطاه وأمره أن يمتثل ما أمره به، ولم يأمره إلا وعنده استطاعة، ولهذا يذكر أنه مكلف بقدر الاستطاعة، كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦] ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، فأوامر الله تعالى ونواهيه لابد أن تكون مقدورة للعبد، وأن العبد يستطيع أن يفعلها وتنسب إليه لأنه الذي باشرها.

فنقول: هذا مصلٍ، وهذا صائم، وهذا تقي، وهذا نقي، وهذا قارئ، وهذا بر بأبويه، وهذا محسن إلى إخوته، وهذا صدوق اللسان، وهذا طاهر القلب، وهذا طاهر الجنان.

وبضد ذلك نقول: هذا فاجر، وشقي، وبعيد عن الخير، ومعاند، وخارج عن طاعة الله تعالى، وكذاب، وفاجر.

فننسب إليه أفعاله التي فعلها ولو كانت بمشيئة الله، فالله تعالى لو شاء لرده عن هواه، ولكن لما كان مزاجه وهواه وطبعه سيئاً خلَّى بينه وبين هواه وخلَّى بينه وبين شيطانه، ولو هداه لاهتدى، ولكن لله الحكمة في أن هدى قوماً وأضل آخرين، فالخلق الذين في المنزل الواحد نشاهد أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم مهتدون متمسكون غاية التمسك صالحون في كل أعمالهم، وقسم منحرفون فسقة فجرة ليس معهم من الخير شيء، وقسم متوسطون معهم خير ومعهم شر، فالله تعالى أعطى هذا وأعطى هذا، ومَنَّ على هذا، وخذل هذا.

إذاً فنؤمن بهذا كله، ونعلم أن هذا كله قضاء الله تعالى وقدره، لا رادَّ لما قضى ولا مغير لما أمر به.

<<  <  ج: ص:  >  >>