للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وسوسة الشياطين لبني آدم وملابستهم]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويؤمنون بأن الله تعالى خلق الشياطين توسوس للآدميين ويخدعونهم ويغرونهم، وأن الشيطان يتخبط الإنسان] .

أي: يؤمن أهل الحديث بأن الشياطين مسلطون على الإنسان، وأن الله تعالى هو الذي سلطهم ولو شاء لأهلك الشياطين، فأولهم إبليس اللعين الذي امتنع عن السجود لآدم وتكبر، قال الله: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٣٤] .

ولما طرده الله ورجمه وقال: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر:٣٤-٣٥] ، سأل النظرة فقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:٣٦] (أنظرني) يعني: أخرني وأمهلني فأمهله الله وأنظره {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:٣٧-٣٨] ، فبقي معمراً هو وذريته، فصاروا يتسلطون على نوع الإنسان، وأقسم إبليس بأن يضل نوع هذا الإنسان وأن يخرجهم من النور إلى الظلمات، أقسم على ذلك كما قال تعالى: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:١١٨-١١٩] ، هكذا التزم بأنه يتسلط عليهم ويوسوس لهم ويحاول إغواءهم وإغراءهم، قال الله تعالى له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:٧٧-٧٨] ، ومع ذلك التزم بأنه سيغويهم حتى إنه لما قال الله تعالى له: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:١٥] ، قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:١٧] .

سلطه الله تعالى على نوع هذا الإنسان، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:٢٠] ، فالله تعالى هو الذي سلط على الإنسان هذا العدو من الشياطين الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يجري من الإنسان مجرى الدم: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) ، ينفذ في جسد الإنسان مع العروق، ويصل إلى ما يصل إليه الدم، والدم معروف أنه في كل جزء من أجزاء البدن، فمعناه أنه يلابس الإنسان.

ولكن يقول العلماء: إن الله تعالى أعطى الإنسان سلاحاً يتقوى به، فالأمور التي تحرز من الشيطان عشرة ذكرها ابن القيم في تفسير سورة الناس في بدائع الفوائد عند قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:٤] فبدأها بالاستعاذة، أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

كما أمرنا الله تعالى بذلك.

ثم منها الذكر؛ لأن ذكر الله تعالى يطرد الشياطين، وذكر العمل الصالح أنه يطرد الشياطين، ودعاء الله تعالى وسؤاله سبب لطرد الشياطين.

ومنها القراءة، وبالأخص قراءة آية الكرسي؛ فإنها وسيلة من وسائل طرد الشيطان كما ورد ذلك في الحديث.

وكذلك مجالس العلم والخير سبب لطرد الشياطين، وسبب لنزول الملائكة.

وكذلك حماية الإنسان نفسه من المعاصي سبب لطرد الشياطين، ذلك لأن المعاصي يتسلط بواسطتها الشيطان على الإنسان.

وهكذا ختم اليوم أو الليل بخاتمة حسنة بذكر أو بدعاء سبب أيضاً لطرد الشياطين.

فالشيطان عدو للإنسان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:٦] ، فإذا عرفنا أنه عدو لنا فإن علينا أن نتحصن منه حتى لا يتسلط علينا، وقد أخبر الله تعالى بأنه يوسوس في صدور الناس فقال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:٥] ، وأخبرنا باسمه: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:٤] فالوسواس: هو الذي يقذف الوسوسة في القلب.

والخناس: هو الذي ينخنس ويصغر وينقبض.

يعني: إنه وسواس عند الغفلة وخناس عند الذكر.

فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به خنس الشيطان وهرب وذل وهان وابتعد عنه، وإذا غفل العبد وسوس إليه وألقى في صدره الوساوس والأوهام.

فأخبر الله بأنهم يخدعونهم ويغرونهم، كما في قوله تعالى عن الشيطان أنه قال لما قال الله له: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:٦٣-٦٤] قيل: إن من أصواته الغناء {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:٦٤] ، يعني: بقواتك وبما تملكه {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:٦٤] ، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:١٢٠] ، فهذه المواعيد تكون في قلب الإنسان، بأن يلقي في قلبه أنك إذا فعلت كذا حصل لك وحصل لك.

وأول ذلك وسوسته للأبوين، قال الله تعالى عنه: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:١٢٠] هذه حيلة من الشيطان {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:١٢٠] ، الشجرة التي نهيا عنها، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:٢١-٢٢] ، فهذه حيل الشيطان.

وذكر الله أيضاً أنه يتخبط الإنسان، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:٢٧٥] ، كأنه يتسلط عليه حتى يغلب عليه فيقوم ويسقط ويقوم ويسقط، مثل الذي تسلط عليه جني فصار يصرعه، فالشيطان يتسلط علي الإنسان ويلابسه ويصرعه ويتقوى عليه، ولكن عليه أن يستعيذ بالله من شره، وأن يتحفظ بالله تعالى منه حتى يحفظه، ومن اعتصم بالله تعالى عصمه وأعانه.

كذلك أيضاً من عقيدة أهل السنة وأهل الحديث أن في الدنيا سحراً وسحرة، وأن السحر واستعماله كفر من فاعله إذا كان معتقداً له نافعاً ضاراً بغير إذن الله.

وعمل السحرة معلوم أنه قد سماه الله تعالى كفراً، ووصف أهله بما يقرب من الكفر؛ فلأجل ذلك يحذر منه العلماء، ثم يعتقدون أن الضرر الذي يصير بسببه إنما هو بقدر الله تعالى وبقضائه.

والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>