[الأمر بالاكتساب مقيد بالأخذ بالأسباب]
الآيات التي فيها الأمر بالاكتساب مقيدة بالآيات التي فيها أن الله تعالى هو مسبب الأسباب، فإذا قرأت قول الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:٢٠] فهذا مدح لهم، أو إقرار لهم أنهم يسافرون في الأرض (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) يتطلبون الرزق.
وكذلك إذا قرأت قول الله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:٢٠] ، فلماذا يمشون في الأسواق؟ يطلبون الرزق يقتاتون به، فالله تعالى هو الذي أباح ذلك لهم وأمرهم به.
وإذا قرأت قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:١٥] امشوا واطلبوا الرزق بما أقدركم الله تعالى، فهو سبحانه أعطاكم الأيدي والأرجل، فتتمكنون من المسير والتنقل من بلد إلى بلد، وكذلك أيضاً الأيدي تتمكنون بها من الصناعة والحرفة والعمل اليدوي الذي تحصلون منه على رزق تقتاتون به وتقوتون به من تحت أيديكم، فالإنسان ما دام طفلاً صغيراً فإن الله يحنن عليه قلبي أبويه حتى يعطفان عليه ويعطيانه ويغذيانه، فإذا ترعرع وكبر وقوي عند ذلك هو مأمور بأن يتطلب لنفسه ويتكسب، والله تعالى يعينه إن استعان به.
وهكذا الآيات التي فيها الإخبار بأن الرزق من الله مقيدة بالآيات الأخرى، فمثل قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:٦٠] يعني: الله يرزقها ويؤتيها رزقها.
فما رأينا دابة ماتت من الجوع إلا أن تحبس، فالدواب والحشرات والطيور كلها تعيش، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها سيأتيها رزقها، يقول في الحديث: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) ، فالطيور لا تجلس في أوكارها، بل تذهب وتطلب الرزق وتقع عليه، ولكن جعل الله تعالى لها رزقاً يناسبها تجده، والوحوش ما رأينا شيئاً منها ولا من السباع ولا الحشرات يموت جوعاً، بل يسهل الله تعالى له رزقه ويرزقه إلى أن يتغذى ويقتات، كلها جعل الله من طبعها أنها تطلب الرزق، والله تعالى هو الذي يرزقها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦] يعني أن الله خلق لها رزقاً وأوجده، ولكن من طبعها أنها تذهب وتأكل ما تجده، وتتقلب في الأرض، ويسهل الله لها الرزق الذي ييسره وتتقوت به وتتغذى.
فعرف بذلك أن رزق الله تعالى الذي فيه قوام الحياة ميسر لكل مخلوق، وهو الذي يضمنه الله لمن أبقاه الله من خلقه، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦] تضمن الله أنه يرزق الدواب كلها، وكلمة (دابة) تعني كل ما يدب على الأرض، ويدخل فيه الطيور، ولو كانت قد تسمى طيوراً في الآيات الأخرى، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:٣٨] ، فقد قسمهم إلى قسمين: دابة، وطير، ولكن معلوم أن الطير لا يستغني عن الوقوع على الأرض؛ لأن رزقه يكون في الأرض أصلاً، فهو يدب على الأرض فيدخل في الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦] ، إذاً تضمن الله تعالى بالرزق لمن أبقاه.
وقد اختلف هل يسمى الحرام رزقاً؟ والصحيح أنه رزق؛ لأن الله هو الذي يسره، ولكن حرم تعاطيه، وحرم التعاطي والتكسب بالحرام، ومع ذلك هو رزق من تغذى به فقد تغذى بما وصل إليه، ولكنه منهي عن أن يتعاطاه، وهو الذي رزقه من حلال أو حرام.
وقوله: [وكذلك رزق الزينة الفاضل عما يحيا به] يعني الزائد عن حاجته، يقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢] ، فهذه الطيبات للذين آمنوا في الحياة الدنيا ولكنها مشتركة بينهم وبين غيرهم، وأما في الآخرة فإنها خاصة بأهل الإيمان {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢] .
ويدخل في الزينة الأكسية والألبسة والكماليات التي تكمل بها الحياة من المساكن والمراكب والفرش والأواني والأدوات التي تستعمل كلها من زينة الدنيا التي زينها الله تعالى للناس، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:١٤] ، كل هذه من زينة الدنيا التي زينها الله تعالى للناس وأباح لهم أن يستعملوا منها ما هو حلال، ولكن هذا كله متاع يأخذون منه ما يتمتعون في هذه الحياة ويعبرونها إلى أن تنتهي أعمارهم.