[موقف أهل السنة من الفتن التي وقعت بين الصحابة]
نكف عما شجر بينهم ووقع من الخلاف، ولا نتأوله، ونكف عما حصل بينهم، وكذلك نكلهم فيما جرى بينهم على التأويل، ونلتمس لهم الأعذار، ونعتذر عما حصل بينهم، ولاشك أنه حصل بينهم شيء من الخلافات، ولكنها محمولة على الاجتهاد، فمثلاً الذين ثاروا على عثمان ليسوا من الصحابة، وإنما هم من جفاة الأعراب الذين انتقدوه في نظرهم انتقادات خاطئة، فكان من آثارها أنهم ثاروا عليه إلى أن قتلوه، والله يتولى جزاءهم.
فيقال: أمرهم إلى الله تعالى.
ورأيت في بعض نشرات الرافضة المعاصرين أنهم يفتخرون بأن شيعتهم الذين ثاروا على عثمان حتى قتلوه، فجعلوا أولئك الأعراب الجفاة شيعتهم، هكذا يدعون.
وعثمان لما قتل رضي الله عنه قتل في موسم الحج، وكان كثير من الصحابة بمكة، ومنهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأولاد الزبير وغيرهم، فلما سمعوا بخبر قتله قالوا لا بد أن نذهب حتى نقاتل أولئك الجفاة من الأعراب الذين في حدود العراق، فتوجهوا وذهبوا معهم بـ عائشة أم المؤمنين ومعهم جمع، ولما سمع علي رضي الله عنه بذهابهم أهمه أمرهم، وذلك لأنه أحب أن تجتمع الكلمة ويجتمع المسلمون ويبايعوه جميعاً قبل أن يحصل هذا القتال، فلما بلغه أمرهم لم يجد بداً من أن يذهب في أثرهم إلى العراق، ولما تقابلوا هناك التف مع جيشه كثير من الثوار الذين لهم سبب في قتل عثمان رضي الله عنه، ثم اجتمعوا وتفاوضوا واتفقوا في مساء ذلك اليوم على أنهم سوف يقتلون قتلة عثمان كانوا رؤساء قبائل، فلما سمعوا بذلك قالوا: لابد في آخر الليل أن نوقع قتالاً بيننا وبين جيش طلحة.
ودبروا هذه المكيدة في آخر الليل وأوقعوا القتال ونشبت الحرب واستمرت يوماً أو يومين، وكانت عائشة في وسط المعركة على جمل لها، وسميت تلك الواقعة (واقعة الجمل) وقتل فيها طلحة والزبير وخلق كثير، وهي من الفتن، بعد ذلك انصرفوا بعد أن حصل ما حصل.
هؤلاء أيضاً معذورون، فـ علي رضي الله عنه في هذا القتال لم يكن متعمداً، وما أراد بذلك إلا جمع الكلمة وردهم حتى يبايعوه، بعد ذلك مناصري عثمان والزبير وطلحة ومن معهم ما أرادوا القتال، لكن الذي دبره هم أولئك الثوار، إذاً فهم محمولون على أنهم مجتهدون فنعذرهم بذلك، ونقول: القاتل منهم والمقتول مجتهد.
ولا نعيب أحداً منهم، ونكل أمرهم إلى الله تعالى.
وبعد ما استقر أمر علي في العراق وبايعه أهلها واستتب له مر بلغه خبر أهل الشام الذين تحمسوا لقتل عثمان وجاؤوا بحدهم وحديدهم يريدون أن يقاتلوا قتلة عثمان، فالتقوا بموضع يقال له (صفين) ، وقالوا لـ علي: سلم لنا قتلة عثمان فقال: بايعوني، فإذا اجتمعت الكلمة عند ذلك نتمكن نحن وأنتم من أولئك القتلة ونقتلهم واحداً واحداً مهما كانوا.
فامتنعوا فوقعت المعركة بين الفريقين أهل العراق وأهل الشام.
تلك المعركة أيضاً معركة عظيمة حصل فيها من القتل خلق كثير، فنعذرهم أيضاً لذلك، فنقول: معاوية ومن معه مجتهدون في طلبهم للثأر، وعلي رضي الله عنه ومن معه مجتهدون في طلبهم الأمان والبيعة.
ونكل أمرهم إلى الله، فنكف عما شجر بينهم، ولا شك أن هذا من الفتن التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وبين أنها ستقع، وحث من أدركها على أن يبتعد عنها، وكان ممن اعتزل تلك الفتن: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فإنه انعزل وصار في البادية وصار يستوحش من الناس، حتى إنه كان ينشد بيتاً يقول فيه: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير يعني: إنني أستوحش بصوت الإنسان وأستأنس بالذئاب، وأستوحش من الناس مخافة أن يدخلوني في هذه الفتن.
وجاء كثير منهم إلى عبد الله بن عمر واستجاشوه وأثاروه، وقالوا له: ألا تقاتل معنا والله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:١٩٣] ؟ فقال عبد الله رضي الله عنه: (قاتلناهم حتى لم تكن فتنة، وأنتم تقاتلون حتى تكون الفتنة) فالذين اعتزلوا الفتنة هم الذين حازوا الصواب، وعلى كل حال نحمل ما وقع منهم على التأويل ونكلهم إلى الله عز وجل.