[سبب استخدام أهل السنة لبعض كلمات المتكلمين]
إن بعضاً من أهل الحديث والعقيدة لما ظنوا أن إثبات هذه الأشياء يستلزم أن المعتزلة يعيبون مَن أثبت الصفات في كذا وكذا صرَّحوا بمثل هذا النفي، كأنهم يقولون: إذا أثبتم لله تعالى الاستواء والمجيء والنزول فإن هذا إثبات أجسام؛ لأنَّا لا نعرف من ينتقل من فوق إلى تحت، أو من يجيء أو من يستوي ويرتفع إلا الأجسام والأعراض، فقد أثبتم جسماً، أو عَرَضاً، أو أجزاءً وأبعاضاً أو نحو ذلك.
هكذا يقولون.
فهم إذا قيل لهم: إن الله تعالى مستوٍ على عرشه قالوا: هذا يستلزم أن يكون جسماً؛ لأن الاستواء الذي هو الاستقرار على العرش لا بد أن يكون جسماً، فقد جسَّمتم وأثبتم لله تعالى جسماً.
فنقول: لا ترمونا بإثبات شيء لم نقله، نحن لا نقول: إن الله جسم أو غير جسم، بل الله تعالى وصف نفسه بهذه الصفات، ونتوقف عما زاد عليها.
كذلك إذا قدَّروا التقديرات وقالوا: إذا استوى على العرش فإما أن يكون مثل العرش أو دون العرش أو فوق العرش أو أكثر أو أوسع منه فإنا نقول: هذا هو التكلف، فلا تدخلوا في هذا، وأثبتوا ما أثبته الله ووكِّلوا الكيفية إليه سبحانه، كما قال السلف: الكيف مجهول.
وإذا قالوا -مثلاً-: إن مجيئه ونزوله من شأن المحدثات والمركبات، ويلزم من هذا أن يكون حادثاً مركباً من أعضاء وأجزاء وما أشبه ذلك.
-تعالى الله عن ذلك- قلنا: هذا أيضاً من التكلف، ولا حاجة بنا إلى أن نخوض في مثل هذا.
إن الله تعالى ربنا نؤمن به وأنه خالق الخلق وهو مدبِّرهم، وأما الخوض في تكييف صفاته وتنزيهه عن أشياء قد سكت عنها وسكت عنها السلف وأئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن الدخول فيها تكلُّف.
فـ شيخ الإسلام لما ناظرهم في دمشق في الصفات وأثبتها، عند ذلك كان يقول: لله تعالى وجه ولا يشبه خلقه، ولله يدان من غير تشبيه ليست كيد المخلوق، والله تعالى يضحك ويعجب لا كعجب المخلوق، والله تعالى يرحم لا كرحمة المخلوق.
فعند ذلك قال بعض الحاضرين: إذاً سنقول: إن لله تعالى جسماً لا كأجسام المخلوقين! فقال شيخ الإسلام: كلا.
لا نقول هذا؛ لأن هذا لم يرد، ونحن إنما نقول بما ورد، وأنتم توافقون على أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، فأين في الصفات إثبات الجسم أو نفيه؟! وأين في صفات الله أو الآيات والأحاديث إثبات العَرَض أونفيه؟! أو إثبات الأبعاض والأجزاء أو نفيها؟! أو إثبات التركيب وحلول الحوادث أو نفيها؟! أو إثبات المقدار -أو ما يقولونه من الغِلَظ والدقة- وما أشبه ذلك أو نفيه؟! ولَمَّا لَمْ ترد مثل هذه لم يَجُزِ استعمالها نفياً ولا إثباتاً، فهذا هو حقاً القول الصحيح الثابت، أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأن مثل هذه الأعراض والكلمات التي توسع فيها هؤلاء إنما هي مبتدَعة.
ثم ذكر المعلِّق عذر المؤلف في ذكره مثل هذه الكلمات، يقول: غير أنه أراد بهذا النفي أن يسد الطريق على المعطلة لئلا يكون لهم مدخل في رمي أهل الحديث بالتشبيه.
هكذا استعمل هذه الكلمات حتى يسد الباب على المعطلة الذين هم المعتزلة، فإنهم إذا قلنا: إن لله وجهاً قالوا: الوجه موجود في المخلوقين فقد شبَّهتم.
وإذا قلنا: إن لله يداً قالوا: قد شبَّهتم.
وإذا أثبتنا هذه الصفات قالوا: قد جعلتم الله تعالى أعراضاً وجعلتم له أبعاضاً وأجزاءً وجعلتم وجعلتم.
فلأجل ذلك رأى بعض أهل السنة من المتأخرين في القرن الرابع وما بعده استخدامها، أمثال المؤلف والطحاوي في عقيدته أيضاً فإنه استعمل مثل هذه الكلمات وناقشه الشارح وبين أيضاً أنها مما لم يرد، وكان عذره أن يسد الباب على المعطلة والمعتزلة ونحوهم، لكن ذكر أنه فتح الباب لهم؛ إذ قد يلزم من أطلقها بموافقتهم على نفي بعض الصفات الذاتية، كأنهم يقولون: ما دام أنكم تنفونها وتقولون: ليس لله أعراضٌ وأجزاءٌ فعليكم أن تنفوا صفة الوجه والرجل واليدين وما أشبه ذلك مما ورد دليله.
فيقول: إن استعمال هذه الكلمات فتح لهم الباب، وكان الأولى الإمساك عنها، والاقتصار على الوارد.
فنحن نعتقد وننفي النفي المجمل، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] ، فيكفينا فيها النفي، ويكون هذا عاماً في الذات والفعل، فإذا أثبتنا لله الصفات الذاتية كالسمع والبصر والكلام والوجه وما أشبهها قلنا: ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته.
وإذا أثبتنا له الأفعال أنه يشاء ويريد ويحكم ويرحم ويحب ويكره ويبغض قلنا: ليس كمثله شيء في هذه الأفعال.
وهكذا طريقة أهل السنة في مثل ذلك.