[الخلفاء الراشديون وفضائلهم وأدلة استخلافهم]
أما فضائلهم فهي أشهر من أن تذكر، وقد اهتم بهم العلماء رضي الله عنهم، فقد جعل البخاري في صحيحه كتاب (فضائل الصحابة) ، فبدأ بفضائل أبي بكر، ثم ثنى بفضائل عمر، ثم ثلث بفضائل عثمان، ثم بفضائل علي، وذلك دليل على أنه كان يعتقد خلافتهم، وأن هذا الترتيب ترتيبهم في الفضل وترتيبهم في الخلافة.
ومثله أيضاً مسلم في صحيحه، فقد بدأ بفضائل الأربعة الخلفاء على ترتيبهم، وذكر كل فضائلهم التي صحت عنده، وذلك دليل على مزايا لهم، وهي فضائل من قرأها عرف بذلك صحة خلافتهم، وعرف أهليتهم لهذه الولاية.
وكذلك الترمذي في سننه، فإنه جعل في آخر سننه كتاب الفضائل، بدأها بفضائل الخلفاء الأربعة، واستوفى ما ثبت عنده أو ما يقرب من الثبوت، وكذلك أيضاً قد أفردت بكتب، فمنها (كتاب فضائل الصحابة) للإمام أحمد، مطبوع في مجلدين بهذا العنوان: (كتاب فضائل الصحابة) ، وهكذا فعل الذين كتبوا في التاريخ.
ولا شك أن ذلك دليل على أهمية خلافة هؤلاء وصحتها، وأن من طعن في خلافة أحد منهم فهو أضل من حمار أهله، كما قال ذلك شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية.
والكلام في ترتيبهم طويل، وله جانبان: أولاً: ترتيبهم في الخلافة.
وثانياً: ترتيبهم في الفضل.
فقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: (كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) ، وهذا يعني ترتيبهم في الفضل، يعني أبا بكر أفضلهم، بل أفضل هذه الأمة، ثم يليه بالفضل عمر، ثم يليه بالفضل عثمان، هكذا كانوا يقولون، وهكذا أيضاً أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وثبت أيضاً في الصحيح عن علي رضي الله عنه من طرق متواترة أنه كان يخطب على المنبر في الكوفة فيقول على رؤوس الأشهاد: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر.
ولكن الرافضة لا يأخذون من كلامه إلا ما يوافق أهواءهم، ويكذبون عليه ويردون ما ثبت عنه حقاً، وسأله مرة الحسن فقال: يا أبت! من أفضل هذه الأمة؟ فقال: يا بني! أبو بكر، فقال: ثم من؟ قال: عمر.
قال الحسن: ثم أنت؟ فقال: ما أبوك إلا واحد من المسلمين.
قال ذلك على وجه التواضع.
وعلى كل حال هكذا ترتيبهم في الفضل وترتيبهم في الخلافة.
قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة في كلامه على حقوق الصحابة رضي الله عنهم: [ويقولون بتفضيل الصحابة رضي الله عنهم؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:١٨] ، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:١٠٠] ، ومن أثبت الله رضاه عنه لم يكن منه بعد ذلك ما يوجب سخط الله عز وجل، ولم يوجب ذلك للتابعين إلا بشرط الإحسان، فمن كان من التابعين من بعدهم لم يأت بشرط الإحسان فلا مدخل له في ذلك.
ومن غاظه مكانهم من الله فهو مخوف عليه ما لا شيء أعظم منه؛ لقوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩] ، فأخبر أنه جعلهم غيظاً للكافرين.
وقالوا بخلافتهم؛ لقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:٥٥] ، فخاطب بقوله: (منكم) من نزلت الآية وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه، فقال بعد ذلك: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:٥٥] ، فمكن الله بـ أبي بكر وعمر وعثمان الدين وعد الله آمنين يغزون ولا يُغزون، ويخيفون العدو ولا يخيفهم العدو.
وقال عز وجل لقوم تخلفوا عن نبيه عليه السلام في الغزوة التي ندبهم الله عز وجل بقوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:٨٣] ، فلما لقوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه الإذن في الخروج للغزو فلما يأذن لهم أنزل الله عز وجل: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:١٥] وقال لهم: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:١٦] .
والذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء خوطبوا بذلك لما تخلفوا عنه، وبقي منهم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فأوجب لهم بطاعتهم إياهم الأجر وبترك طاعتهم العذاب الأليم إيذاناً من الله عز وجل بخلافتهم رضي الله عنهم، ولا جعل في قلوبنا غلاً لأحد منهم، فإذا ثبتت خلافة واحد منهم انتظم منها خلافة الأربعة] .