[ظهور ابن تيمية وأثره في أهل السنة]
لما كان آخر القرن السابع وأهل السنة طوال هذه القرون يتسترون أخرج الله لهم عالماً من أهل السنة صدع بالحق، وهو ابن تيمية رحمه الله، فلم يبال بمخالفة أهل زمانه، بل تعلق بالحق واعتقده، وأحيا مذهب السلف رحمهم الله، وناقش أهل زمانه في العقيدة، فثار عليه أهل زمانه في دمشق، فقد كان هناك علماء أجلاء، مثل ابن الزملكاني والسبكي المشهور، وهؤلاء أشاعرة، وقد تمكن مذهب الأشعرية منهم، وتلقوه عن مشائخهم، وصار مذهباً راسخاً عندهم، فجاء شيخ الإسلام وصرح بمذهب أهل السنة، وبالاستواء، وبالعلو، وبالصفات الفعلية والذاتية، فكان هذا مما كدر صفوهم، وقالوا: هذا سوف يخالفنا ويفسد علينا عقائدنا.
فرفعوا أمره إلى والي دمشق، فجمعهم السلطان وقال لهم: ناظروه.
فناظروه، وأحضر العقيدة الواسطية وقال لهم: هذه كتبتها من زمان كذا وكذا وأنا الآن على ما أقول وأعتقد.
فقرؤوها فإذا هي آيات وأحاديث وأدلة وأقوال موافقة للحق، ولكنهم مع ذلك أخذوا ينكرون عليه التصاريح التي صرح بها، وظهرت حجته عليهم ولم يقدروا على مقاومته، ولكنهم مع الأسف لم يرجع منهم إلا القليل، بل بقوا على معتقدهم.
وانتشرت عنه هذه العقيدة، فسمع به علماء في مصر من الحنفية ومن الشافعية الذين هم على مذهب الأشعري فرفعوا به إلى السلطان في مصر، وقالوا: نريد أن يأتينا حتى نناظره، وحتى لا يفسد علينا عقيدتنا ولا يفسد علينا جماهير الأمة فإنهم على هذا المعتقد.
فكتب إليه السلطان أن يأتي إليهم، فذهب إليهم وأقام هناك سبع أو ست سنين في مصر كلها في جدال، وتصدى لمناظرته أو مجادلته عالم شافعي يدعى ابن عدوان، ونصبوا قاضياً لهم حنفياً يقال له: ابن مخلوف فحضروا عنده، فقال له ابن عدوان: أنا أشتكي وأنكر على هذا الرجل؛ فإنه يقول: إن الله في السماء بذاته، وإن الله يتكلم بحرف وصوت، وإن القرآن حروفه ومعانيه من كلام الله تعالى.
ونحن نقول: إن كلام الله تعالى معنى قائم بذاته، وإن القرآن ليس كلام الله وإنما هو حكاية أو عبارة، ونحن لا نقول: إن الله ليس على عرشه.
وأخذ يدلي عليهم الحجج، فعند ذلك قال ابن مخلوف: ما تقول يا فقيه؟ فابتدأ رحمه الله تعالى بمقدمة الحمد والثناء على الله تعالى، فقطعوا عليه حمده وقالوا: ما جئنا بك لتخطب، إنما جئنا بك لتحتج.
فعند ذلك قال: فمن الحكم؟ فقالوا: قاضي القضاة ابن مخلوف.
فقال: كيف تحكم علي وأنت خصمي؟ فعند ذلك غضب هذا القاضي المعترف بفضله وبسيادته، فلم يجد بداً من أن كتب: يسجن ابن تيمية.
فوافق على أنه يسجن، وسجن لمدة سنتين أو أكثر، ولكن لم يتوقف عن الكتابة، بل كان يأتي تلامذة له ويلقون عليه الأسئلة ويملي عليهم أجوبتها، فكتب في تلك المدة كلها كتباً كثيرة، حتى جمع منها أكثر من عشرة مجلدات تسمى (الفتاوى المصرية) ، ثم جمعت وصار ينقل منها كثيراً.
ثم أخرج، وحصلت بينه مناظرة وبين عدي بن مسافر وبعض الصوفية، فأنكروا عليه تشدده عليهم، وذلك لأنه ينكر على الصوفية أحوالهم الباطنة، فالحاصل أنه أعيد إلى السجن مرة ثانية وبقي فيه سنتين أو ثلاثاً، وبقي هناك إلى أن تخلص بعد ست سنين فرجع إلى دمشق.
وبعد رجوعه إلى دمشق بقي يدرس ويعلم، وتتلمذ عليه بعد رجوعه التلميذ الخاص ابن القيم، وما رآه إلا بعدما رجع سنة إحدى عشرة وسبعمائة، فتتلمذ عليه ابن القيم وابن كثير والذهبي وابن عبد الهادي ونحوهم، وقبلوا ما قال، وأظهر هؤلاء بالعقيدة، والشافعي منهم بقي على مذهبه ولكنه انتحل مذهب أهل السنة، فـ ابن كثير والذهبي كلاهما شافعي، ومع ذلك أخذا مذهب أهل السنة مع بقائهما على المذهب الشافعي، وأما ابن عبد الهادي وابن القيم فهما حنبليان، وكل منهم بقي على مذهبه في الفروع، وتغيروا عما كانوا عليه أو تلقوه من قبل، فـ ابن القيم يقول: إنه قبل أن يأتيه ابن تيمية قرأ على بعض المتكلمين وتلقى منهم بعض العقائد التي هي عقائد أشعرية أو نحوها، ولكن أنقذه الله بـ ابن تيمية لما جاء، كما أشار إلى ذلك في نونيته.
فالحاصل أن هؤلاء في هذا القرن جددوا مذهب أهل السنة، فتجد كتب ابن القيم تعالج وتجادل في مذهب أهل السنة وفي إحياء هذا المذهب، مثل كتابه الذي سماه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) ، وهو مطبوع أكثره ومفقود بعضه، ومطبوع مختصره، وكتابه الذي سماه (اجتماع الجيوش الإسلامية) كلها تتعلق بالعقيدة.
وابن تيمية رحمه الله له كتب موسعة أوضح فيها مذهب أهل السنة، ورد على تأسيس التقديس للرازي، بكتاب موسع اسمه (نقض التأسيس) ، هذا النقض أتى عليه من الأساس، وفند حججه مما يدل على أنها إن كانت مشتهرة إلا أنها كبيت العنكبوت لا تقوم لمن كان ذا بصيرة.
ورد على الرافضي ابن المطهر الذي ألف كتاباً سماه (منهاج الكرامة في منصب الإمامة) ، ولما جيء بهذا الكتاب إلى الإمام ابن تيمية إذا أوله يتعلق بالصفات، فنقضه نقضاً كاملاً ورد عليه رداً وافياً فيما يتعلق بالصفات، كذلك فيما يتعلق بالمذهب الرافضي في حججهم وشبهاتهم، والكتاب طبع أولاً في أربعة أجزاء ثم طبع أخيراً في عشرة أجزاء والحادي عشر فهارس، وهو ميسر لمن أراد اقتناءه والاطلاع عليه ليعرف أن هذا الإمام رحمه الله قد بذل جهداً في نصر السنة، وأيضاً كتابه الثالث الذي سماه (العقل والنقل) ، وقد طبع في طبعته الأولى باسم (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ، ثم طبع طبعة أخيرة باسم (درء تعارض العقل والنقل) ، وذلك لأن أكثر ما يحتج به هؤلاء الأشاعرة العقل، فيقولون: العقل ينكر كذا.
العقل لا يقر بكذا وكذا.
فأولاً أقنعهم بأن العقل ليس مرجعاً، بل المرجع الأساسي هو الشرع والسمع والنقل.
وثانياً: بين لهم أن العقول الصحيحة توافق المنقولات الصريحة ولا يحصل بينها أي تفاوت، فليرجعوا إلى عقولهم وليحققوها.
وبين لهم أيضاً أنهم متناقضون، فأحدهم يثبت صفة مثلاً ثم ينفيها، ففي نفيه يقول: نفاها العقل وفي إثباته يقول: أثبتها العقل عجباً لك فهل عقلك تغير، كيف تغير بين عشية وضحاها؟! عقل واحد ينفي ثم يثبت، ويأتيك عاقلان كل منهما يدعي كمال العقل، فهذا يثبت هذه الصفة وهذا ينفيها، أليس هذا دليلاً على أن هذه العقول ليست مرجعاً؟ فكيف يحكمونها ويجعلونها المرجع في هذه السنة أو هذا المعتقد.
ولا شك أنه لما جادلهم بمثل هذه المجادلات انقطعت شبهاتهم، فالحاصل أنه رحمه الله هو الذي أحيا هذه السنة بعدما كادت أن تضمحل.
والعلماء الذين في تلك الفترة ما فتئوا يكتبون، ولكنهم لا يقدرون على أن يواجهوا العالم ولا أن يصرحوا، بل يكتبون كتابات يعطونها لتلامذتهم، ففي القرن الخامس ظهر عالم حنبلي يقال له: القاضي أبو يعلى بن الفراء، وكان قد قرأ على المتكلمين، وعلق بذهنه شيء من علم الكلام، ولكن لما كان منتحلاً لمذهب أحمد لم يجد بداً من أن يقتني كتب أحمد، واقتني الكتب التي ألفها الحنابلة، ولا شك أن منها ما يتعلق بالعقيدة، فلأجل ذلك صار على هذه العقيدة، وألف رسالة صغيرة تتعلق بصفة العلو، ولما ألفها قامت عليه الدنيا وأنكروا عليه وشنعوا، وقالوا: أبو يعلى مجسم أبو يعلى مشبه.
مع أنه قاض معترف به وعالم جليل، وله كتاب مطبوع اسمه (إبطال التأويلات) ، يدل أيضاً على أنه مظهر للحق، وأنه على العقيدة السليمة، ولكنه لم يجرؤ مثلما تجرأ ابن تيمية في مناظرة أهل زمانه والإنكار عليهم إنكاراً بليغاً.
ومثله الإمام ابن قدامة، له أيضاً كتب تتعلق بالعقيدة، وهو حنبلي المذهب، ومن مؤلفاته في العقيدة (لمعة الاعتقاد) ، ومنها كتب في إبطال التأويل وفي صفة العلو ونحو ذلك، ولكن لم يكن جريئاً على أن يظهر للعالم ويجادل ويناظر ويخاصم، وذلك لأن جل اهتمامه بتلامذته الذين يتتلمذون عليه، ولم ير أن يجادل أهل زمانه.
ولا شك أن هناك أئمة وعلماء قد خالفوا في هذه العقائد التي هي عقيدة الأسماء والصفات، وذهبوا إلى كثير من التأويلات، ومنهم -مثلاً- الإمام النووي صاحب كتاب (رياض الصالحين) وصاحب (شرح مسلم) ، وله كتاب (الأذكار) ، و (المجموع شرح المهذب) ، وله كتب كثيرة، ولكن مشايخه الذين قرأ وتتلمذ عليهم طوال حياته في باب العقيدة أشاعرة؛ لأن المذهب الأشعري هو الذي عم في تلك البلاد، فلم يكن له من يلقنه مذهب أهل السنة، وكأنه لم يشتغل إلا بمذهب الشافعي، ولم يشتغل إلا بكتب مشايخه القديمين، وقراءته لكتب الحديث إنما هي قراءة عابرة، وقد تأثر بأهل زمانه، فلما تأثر بهم اعتقد ما هم عليه، فذهب إلى تأويل آيات الصفات وأحاديثها، فتجد أنه في شرح صحيح مسلم أتى على حديث النزول فأخذ يتأوله تأويلات بعيدة وينكر أن يكون نزولاً حقيقياً يليق بالله، وتمر به أيضاً أحاديث فيها صفات فعلية فيتأولها، حتى في رياض الصالحين يتأول كثيراً من الأحاديث التي فيها بعض الصفات إذا صارت مخالفة له.
نقول: إن هذا بسبب تأثرهم بعلماء أهل زمانهم، ولا شك أن أهل الزمان لهم تأثير على غيرهم؛ فلذلك نقول: إن الإنسان عليه أن يختار من مشايخه أهل الثقة ممن يثق بعقيدتهم حتى يكونوا قدوة له، فإذا أخذ من هؤلاء المبتدعة تأثر بهم كما هو طريقة هؤلاء العلماء الذين منَّ الله عليهم بهذه المنزلة.
ومنهم الحافظ ابن حجر، شافعي المذهب، شرح صحيح البخاري فمرت به الأدلة التي في أول كتاب الإيمان والتي في آخر كتاب التوحيد في صحيح البخاري، ومع ذلك نجد أنه كثيراً ما يسلط عليها التأويلات، وينقل تأويلات مشايخه والعلماء الذين قرأ عليهم، مع أنه قرأ أيضاً لـ ابن تيمية، وقرأ لـ