للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الوصية الأولى: لزوم الجماعة]

في هذه الخاتمة وصايا، منها لزوم الجماعة، والمراد بالجماعة هنا جماعة المسلمين، وعبروا بالجماعة عن أهل الحق الذين هم على طريقة السلف وعلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا قلة في بعض الأزمنة، ولو كثر المخالفون لهم فإنهم الجماعة، وهم أهل الحق والصواب، يقول ابن القيم في النونية لما ذكر إجماع أهل الحق: هذا وسادس عشرها إجماع أهل العلم أعني حجةً الأزمان من كل صاحب سنة شهدت له أهل الحديث وعسكر القرآن لا عبرة بمخالف فهم ولو كانوا عديد الشاء والبعران فلا عبرة بمن خالفهم ولو كانوا أكثر من الشاء والإبل، إنما العبرة بمن كان متمسكاً بالحق وكان على السنة والطريقة المحمدية، هؤلاء هم أهل الجماعة ولو قلّوا في بعض الأزمنة، وذلك لأن قدوتهم سلف الأمة وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

ورد في تفسير الفرقة الناجية قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.

قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعة) ، وفي رواية: أنهم الجماعة، أي: جماعة المسلمين وسوادهم.

وورد أيضاً في تفسيرهم في سنن الترمذي وغيره: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .

إن الذين يتمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم لا شك أن هؤلاء هم أهل السنة وهم أهل الجماعة، فهم الذين يلزم أن نتمسك بسيرتهم ونسير على نهجهم، ولا شك أن منهم أئمة الحديث، فإنهم أولى بأن يكونوا هم الجماعة وهم أهل السنة، وذلك لأنهم اشتغلوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واشتغلوا بمتابعة أوامره ونواهيه، فكانوا أولى بأن يتمسكوا بهذه السنة وبهذه الشريعة، لذلك أهل الحديث الذين جعلوه شغلهم لم يوجد فيهم مبتدع إلا ما ندر، وذلك لأن توغلهم في الحديث وسماعهم له يحملهم على أن يعملوا به ويتبعوه، لذلك نقول: الزموا السنة، وعليكم بسنة المسلمين، وعليكم بجماعة المسلمين.

فإذا قيل: إن عندنا فرقاً وأحزاباً فأي الأحزاب أولى بأن يكونوا على الصواب قلنا: لا تنظروا إلى تلك الأحزاب، ولكن انظروا إلى أعمال هذه الأحزاب، فإذا كانت موافقة للسنة النبوية وللشريعة الإسلامية فاعملوا بها وكونوا معهم، فإذا كان هذا الحزب باطلاً فخذوا الحق الذي معه ودعوا الباطل.

ومعلوم أنه في هذا الأزمنة كثرت الأحزاب حتى وصلت في بعض الدول إلى مائة حزب، أحزاب متعددة، وكل حزب يتسمى باسم، فننظر من هم أهل الجماعة من تلك الأحزاب ونتبعهم ونؤيدهم، ونصوب رأيهم، ونأخذ من كل حزب ما معه من الحق ونصوبه، ونقول: أصبتم في هذا وأخطأتم في هذا، وهذا الخطأ عليكم أن تتركوه.

كذلك أيضاً إذا رأينا تلك الأحزاب وعرفنا أن أهدافهم ما هي إلا الحق وقصد الخير ونصر الدين حرصنا على أن نجمعهم ونقرب بينهم، ونبين لهم أنه لا خلاف بينهم ما دام كل منهم قصده الحق والصواب، فإذا رأينا -مثلاً- حزباً من الأحزاب يتسمى بأهل السنة شجعناهم، ولكن نحثهم على أن يتمسكوا بالسنة، وإذا رأينا حزباً آخر يسمى بأهل التوحيد شجعناهم وقلنا لهم: نعم ما تسميتم به، فتسموا بهذا وحققوا الاسم ووحدوا الله تعالى وأطيعوه.

وإذا رأينا حزباً آخر يتسمى أنصار الدين.

قلنا: هذه تسمية جميلة طيبة تنصر الدين.

وإذا رأينا حزباً تسمى بأهل الإصلاح قلنا: نعم ما فعلتم، فاحرصوا على الإصلاح، وحققوا دينكم، وأصلحوا بين إخوتكم.

وإذا رأينا جماعة يتسمون بأهل الدعوة قلنا: نعم ما فعلتم، فأنتم أهل دعوة، ولكن تكون دعوتكم إلى حقيقة الإسلام، وإذا رأينا من يتسمى بأئمة السلف أو أهل السلف أو أتباع السلف.

قلنا: نعم ما فعلتم من هذا، ولكن عليكم أن تحققوا ذلك الاتباع، وأن تكونوا من السلف حقاً متبعين لهم، وهكذا بقية الفرق.

ثم لا شك أنه قد يحصل بين هذه الأحزاب شيء من التفرق ومن الاختلاف، فنحثهم على أن يتقاربوا وأن لا يكون بينهم شيء من الشنآن ولا البغضاء والأحقاد حتى يجتمعوا وتكون كلمتهم واحدة؛ فإن ذلك أهيب لهم، وأقوى لمعنوياتهم، ويكونون مهابين عند الأعداء والمبتدعة.

فالمبتدعة إذا رأوا كلمة أهل السنة والجماعة واحدة واتفاقهم ودعوتهم إلى شيء واحد هابوهم، ولم يتجرؤوا على أن يردوا عليهم ولا أن يضللوهم أو يبدعوهم.

إذاً فنحن نقول: هنيئاً لكم أيها الجماعة، أنتم أهل السنة وأنتم أهل الجماعة، فاجتمعوا حتى تكونوا إخوة هدفكم واحد، كلكم طلبتم الحديث والعلم، وكلكم على عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات والأفعال وأركان الإسلام وأركان الإيمان وأسماء الإيمان والدين وفي الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومتبعون للحق مع من كان لا تقولون ببدعة من البدع، وتتبرؤون من المبتدعة من جبرية وقدرية ومرجئة وأشعرية ومعتزلة ورافضة وصوفية أو قبوريين، تتبرؤن منهم جميعاً وتحقدون عليهم، إذاً فما الفرق بينكم؟ دعوا هذه الفروق اليسيرة التي تدعون أنها مخالفات، وتقاربوا فيما بينكم، واصطلحوا على أن تكون همتكم وأهدافكم واحدة حتى لا يقع التفرق الذي هو تحزب يؤدي إلى الاضطراب، فإن الله تعالى يعيب الذين يتحزبون، ويقول تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ البينات} [آل عمران:١٠٥] ، {مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:٣٢] ذم لهم على هذه الأفعال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:٣١] ، فالحاصل أن لزوم الجماعة يستلزم التمسك بالسنة الحقة.

<<  <  ج: ص:  >  >>