قد تقول: إنه حدث في التابعين بدع! نقول: صحيح، ولكن أولئك المبتدعة الذين انتحلوا بدعاً من التابعين لم يكونوا من تلامذة الصحابة غالباً، وإنما أخذوا بدعهم هذه عن أفكار سيئة وتأويلات بعيدة.
ومعلوم أن الخوارج الذين خرجوا في سنة ست وثلاثين من التابعين؛ لأنهم من جيش علي رضي الله عنه، وأغلبهم من أهل العراق وكان فيها مجموعة كبيرة من الصحابة، ومع ذلك فإنهم خوارج، ولكن ليس فيهم مشهور بالعلم، وليس فيهم من تتلمذ تتلمذاً صحيحاً على الصحابة، وإنما قرؤوا القرآن، ولما قرؤوه ولم يقرؤوا تفسيره ولا معانيه أخذوا الآيات التي فيها عذاب فطبقوها على أهل زمانهم، فكان من عقيدتهم -كما سيأتي- أنهم يجعلون الذنب كفراً والعفو ذنباً، ولن نشتغل بهم، بل نقول: ولو كانوا من التابعين فإنهم ما قرؤوا العلم، ولا قرؤوا العقيدة الصحيحة حتى يكتبوا من حملة العلم، وإنما أخذوها من نظرياتهم ومن أفكارهم.
وكذلك أيضاً القدرية الذين حدثوا في آخر عهد الصحابة وأدركهم ابن عمر رضي الله عنه لم يكونوا مشهورين بالتتلمذ على الصحابة، ولكن اعتقادهم إنما هو عن أفكار سيئة، وأغلبها بسبب سوء معرفتهم وسوء نظرهم في الآيات وحملها على محامل بعيدة، فإن من عقيدتهم إنكار علم الله السابق، وأن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث، مثل غيلان القدري، ومعبد الجهني، وعمرو بن عبيد، فما عرف أنهم تتلمذوا على صحابي وأخذوا عنه العلم الصحيح، فعرف بذلك أن تلامذة الصحابة الذين تلقوا عنهم العلم الصحيح أصبحوا ورثة لهم، والعلماء ورثة الأنبياء، فأصبحوا مثالاً لهم، وأن الذين أخذوا العلوم من أفكارهم حصل في قلوبهم زيغ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف:٥] ، نعوذ بالله من زيغ القلوب، فهذا بغير شك دليل على أن العلم الصحيح الذي يؤخذ من معدنه يثبت في القلب، ويكون له آثار حسنة.
ولكن معلوم أنه في القرن الثاني بعد انقراض عهد الصحابة دخل في الإسلام بعض من لم يكونوا راغبين فيه، فكان من آثار دخولهم في الإسلام من غير صدق ويقين أن أثاروا كثيراً من الشبه، وأوقعوا كثيراً من الناس في الحيرة وشككوهم في عقائدهم ومبدأ أمرهم ومنتهاه، ونشروا بينهم شبهات الفلاسفة والمنجمين والزنادقة والملاحدة ونحوهم، فكلما أثاروا تلك الشبهات فيما بينهم انخدع بها الكثير، فلما رأى السلف رحمهم الله من تلامذة الصحابة وتلامذة التابعين هذه الآثار في هؤلاء المنحرفين لم يجدوا بداً من أن يصدعوا بالسنة ويظهروا أمر العقيدة ويصرحوا للناس بما هم عليه حتى يعرف جماهير الناس العقيدة السليمة فيتمسكوا بها، ويعلموا أن ما خالفها بدعة ونحلة سيئة.