[الفرق بين الإسلام والإيمان]
قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة في بحثه في مسائل الإيمان: [وقال كثير منهم: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى الآخر فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعاً.
أو مفردين أريد بأحدهما معنىً لم يرد بالآخر، وإن ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم.
وكثير منهم قالوا: الإسلام والإيمان واحد، فقال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:٨٥] ، فلو أن الإيمان غيره لم يقبل، وقال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:٣٥-٣٦] .
ومنهم من ذهب إلى أن الإسلام مختص بالاستسلام لله والخضوع له والانقياد لحكمه فيما هو مؤمن به، كما قال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:١٤] ، وقال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:١٧] ، وهذا أيضاً دليل لمن قال: هما واحد.
ويقولون: إن الله يخرج من النار قوماً من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين برحمته، وإن الشفاعة حق، وإن الحوض حق، والميزان حق.
والحساب حق، ولا يقطعون على أحد من أهل الملة أنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار؛ لأن علم ذلك مغيب عنهم لا يدرون على ماذا يموت: أعلى الإسلام أم على الكفر؟ ولكن يقولون: إن من مات على الإسلام مجتنباً للكبائر والأهواء والآثام فهو من أهل الجنة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:٧] ، ولم يذكر عنهم ذنباً، {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [البينة:٨] .
ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بعينه بأنه من أهل الجنة وصح له ذلك عنه فإنهم يشهدون له بذلك اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقاً لقوله] .
تكلم هنا على الفرق بين الإسلام والإيمان، وقد تقدم قول أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، وعلى هذا اتفق سلف الأمة، ولما ابتدأ البخاري كتابه بعد المقدمة بالإيمان قال: وهو قول وفعل.
ويريد بالفعل فعل القلب وفعل الجوارح، جاء بهذه العبارة من نفسه، ونقل عنه أنه لما ذكر مشايخه الذين ذكرهم في صحيحه قال: إني خرجت هذه الأحاديث عن أكثر من ثلاثمائة شيخ كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل.
ولكن اختلفوا هل الإسلام والإيمان بمعنى واحد أو بينهما فرق.
على أقوال.
فذهب كثير من العلماء إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وأن من أطلق عليه مسلم فإنه يصدق عليه أنه مؤمن وبالعكس، ويميل إلى هذا ابن رجب في شرح الأربعين النووية في شرح حديث جبريل الذي فيه تفسير الإسلام والإيمان، أن أحدهما يفسر بما يفسر به الآخر، سواء اجتمعا أو افترقا.
وذهب آخرون إلى أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، ومعنى ذلك أنهما إذا ذكرا جميعاً فلكل واحد منهما تفسير، وإذا ذكر أحدهما أغنى عن الآخر، فيفسر الإيمان بأنه الأعمال الباطنة والإسلام بأنه الأعمال الظاهرة، وذلك بناء على الأصل، فإن أصل الإيمان هو التصديق بالقلب الذي هو يقينه وتصديقه، وأصل الإسلام هو الإذعان والانقياد، يقال: استسلم فلان للأمير وبمعنى: انقاد له وأذعن ولم يعص ولم يتخلف ولم يتبرم.
فلذلك يقال: المسلم هو الذي استسلم لأمر الله وانقاد له، وأذعن وخضع له وتواضع، وأطاعه طوعاً وكرهاً، أطاع الله تعالى مختاراً دون أن يتردد في أمر من أمور الدين، إذا أمر بأمر بادر إليه، وإذا نهي عن شيء في الإسلام تركه وابتعد عنه، يعتقد أن ما أمر الله به فإنه عين المصلحة، وما نهى عنه فإنه عين المفسدة، متى سمع بأن لله طاعة في كذا سارع إليها وأتى إليها محباً لها مندفعاً إليها اندفاعاً قوياً كأنه يقاد باختياره دون أن يكون مكرهاً، فمثل هذا يسمى مسلماً، ويقال مثلاً في الإبل: استسلم البعير لقائده.
أي: أذعن وانقاد له.
فمثلاً: إذا رأيت اثنان يقودان جملين، أحد الجملين مطاوع لمن يقوده، عندما يقوده يتبع قائده ولا يتردد ولا يستعصي ولا يعاند، بل هو مذعن منقاد لا يلتوي ولا يمتنع، فيسمى هذا مستسلماً، بينما الجمل الثاني دائماً ينفر ممن يقوده ويستعصي عليه ويجر رأسه إذا قاده بخطامه، وربما تفلت من الذي يقوده وشرد وهرب منه، فيقال: هذا الجمل غير مستسلم.
وورد في ذلك حديث ولو كان ضعيفاً لكنه يستشهد به: (مثل المؤمن كمثل الجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ ولو على صخرة استناخ) ، هكذا مثل المسلم بأنه كالجمل الأنف، أي: الجمل المذلل الذي يكون بيد من يقوده، إن قاده إلى مرتفع، وإن قاده إلى منخفض، وإن قاده إلى مكان مظلم، وإن قاده إلى مكان فيه حجارة أو نحو ذلك فإنه ينقاد مع من يقوده ويستسلم ولا يستعصي أبداً، هذا حقاً هو الذي يصير مثل المؤمن، إن قيد انقاد، وإن أنيخ ولو على صخرة ولو على رأس جبل استناخ، هذا تعريف الإسلام.
وفسره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بأنه الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
فالاستسلام هو ما ذكرنا، يقول الله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:٨٣] يعني: له أسلموا واستسلموا، وأنابوا وأذعنوا، فجميع المخلوقات مستسلمة له تحت تصرفه وتقديره.
فهذه حقيقة الإسلام، فعرفنا أن كلاً من الإسلام والإيمان له معنى في اللغة وله معنى في الشرع، ولكن يظهر أن الشرع يستعمل الإسلام فيما يستعمل فيه الإيمان، ففي حديث جبريل المشهور فرق بينهما، قال: (فأخبرني عن الإيمان.
قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، ففسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وذلك دليل على أنه هو في الأصل اليقين أو عمل القلب، وفي تعريف الإسلام (وقال: أخبرني عن الإسلام.
قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) ، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، فالشهادتان ولو كانتا قولاً لكنها ظاهرتان، فيظهر أثرهما بأن يعبد الله وحده ويطيعه، والصلاة أمر ظاهر مشاهد، والصوم كذلك أيضاً أمر ظاهر مشاهد، والزكاة إيتاؤها أيضاً أمر ظاهر، والحج أمر ظاهر، فهذه هي الأعمال الظاهرة، لكن جاء في حديث ابن عباس في وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم بأربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا الخمس من المغنم) ، فجعل هذا هو الإيمان، فذكر فيه الشهادتين والصلاة والزكاة، فدل على أنه قد يفسر الإسلام بما يفسر به الإيمان، وبالعكس فإن كلاً منهما يدخل في الآخر، فإذا ذكرا جميعاً فالإسلام هو الأعمال الظاهرة والإيمان هو أعمال القلب، وإذا اقتصر على الإسلام فإنه يستلزم دخول أعمال القلب فيه، وإن اقتصر على الإيمان كذلك دخلت فيه الأعمال الظاهرة لأنها من تعريفه، وقد كتب فيه شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهو أوسع من كتب فيه، فكتب فيه كتاب الإيمان الكبير، وكتاب الإيمان الأوسط، وكتاب الإيمان الصغير، ولكن كتاب الإيمان الصغير يظهر أنه ليس من كتابته، وإنما هو من كتابة بعض أصحابه اختصره من كتبه، وإذا تأملنا كتاب الإيمان الكبير ظهر لنا أنه رحمه الله كأنه لا يوافق على أن الإسلام يدخل فيه الإيمان، بل يرى أن الإسلام يختص بالأعمال الظاهرة، وأن من وصف بأنه مسلم لا يوصف بالإيمان، فهذا هو الذي يميل إليه، وقد سبقه إلى الكتابة في الإيمان علماء كثر، فمنهم: ابن أبي شيبة صاحب المصنف له رسالة في الإيمان مطبوعة، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام، وإن كان من علماء اللغة لكنه أيضاً من علماء الشرع، له رسالة أيضاً مطبوعة في الإيمان، ومنهم الإمام ابن منده واسمه: محمد بن إسحاق، عالم مشهور، له كتاب مطبوع في ثلاثة أجزاء اسمه أيضاً (الإيمان) ، مما يدل على أن السلف رحمهم الله اهتموا بهذه المسألة، فكتبوا فيها وتوسعوا، فالحاصل أن الإسلام يفسر عند الإطلاق بالأعمال الظاهرة، وهي الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وتدخل فيه بقية الأعمال الظاهرة، وتكون الأركان الخمسة بمنزلة الدعائم التي يقوم عليها ولا يتم إلا بها، كما إذا فرضنا مثلاً أن بيتاً قائماً على أربعة أركان فإننا نسمي كل ركن دعيمة، وجمعها دعائم، أي: أسس يقوم عليها ولا يتم إلا بها، فلو انهد جانب من جوانبه أصبح مفتوحاً تدخله السباع والدواب، ويدخله اللصوص، ولا يصلح أن يسكن، سواء انهد الجانب الأيمن أو الأيسر أو الأمامي أو الخلفي فلا يصلح للسكنى، فيقولون: كذلك الإسلام إذا ترك ركن من أركانه فإنه لا يتم ولا ينتفع به صاحبه، وجعلوا الركن الأساسي عمديته اللتين يعتمد عليهما، فقالوا: الشهادتان بمنزلة الأساس أو بمنزلة الأرض التي يعتمد عليها والسقف الذي يظله، فإذا عدمت الشهادتان أو إحداهما فإنه لا ينتفع به، ولا يمكن أن يكون، فالإنسان لا يبني بيتاً في الهواء، لابد أن يكون البيت على قرار، ثم لو بناه ولم يسقفه بل تركه مفتوح السقف لم ينتفع به، فلابد أن يكون له أساس وهو الأرض وسقف وهو أعلاه، فجعل الشهادتين بمنزلة الأساس والسقف، وجعلت