[الأدلة من القرآن الكريم]
الآيات الواردة في إثبات صفة الكلام مثل قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦] ، وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:١٦٤] وما أشبه ذلك، فكثيراً ما يذكر الله تعالى أنه كلم موسى، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:٢٥٣] يعني: موسى، وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:١٦٤] ، ولاشك أن هذا كلام صريح على أنه كلم موسى.
ذكروا أن بعض المعتزلة جاء إلى أبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة- وطلب منه أن يقرأ هذه الآية بنصب الاسم الشريف، فقال اقرأها: (وكلم الله موسى تكليماً) وقصده بذلك أن يكون موسى هو الذي كلم الله، وأن لا يكون الله مكلماً له، ولكن أبا عمرو بن العلاء كان ذا فطنة وفهم، فقال: هب أني قرأت هذه الآية كذلك، كيف تصنع بقول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣] ؟ فبهت ذلك المعتزلي، وعرف أن هذه الآية لا حيلة له في تحريفها.
ثم ذكر شيخ الإسلام أن المعتزلة حرفوا قوله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣] وقالوا: التكليم: هو التجريح، فـ (كلمه) أي: جرحه بأظافر الحكمة، ويريدون بذلك نفي أنه كلمه بكلام سمعه.
والتكليم الأصل أنه المخاطبة، والعرب إذا أرادوا التجريح فلابد أن يكون هناك قرينة تدل عليه، وليس في القرآن هذه اللفظة وإن كانت في اللغة، وفي الحديث: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون دم والريح ريح المسك) ، ولكن بعيد أن يفسر التكليم بأنه التجريح، وذلك لأن المتبادر أنه الكلام.
ثم إن تفسيرهم للتكليم بأنه التجريح يرده التصريح بالكلام، قال الله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:١٤٤] فصرح بالكلام، ولم يقل: بتجريحي.
فلا حيلة لهم في أن يردوا هذه اللفظة.
كذلك آيات النداء: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:١٠] ، {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:١٦] ، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم:٥٢] ولاشك أن النداء لا يكون إلا بكلام مسموع، فهو يرد تأويلهم التكليم بأنه التجريح، والنداء صوت يسمع ويظهر.
كذلك أيضاً الكلام الذي حكاه الله تعالى عن نفسه لموسى وخاطبه به كلام صريح في قوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:١٦] (اذْهَبْ) هذا هو الكلام الذي ناداه به: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات:١٧] ، كذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] هذا أيضاً كلام صريح، وهكذا قوله تعالى: {إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:١٠-١٣] إلى آخر الكلام، هذا هو الذي سمعه من ربه، أنه ناداه بهذا الكلام: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} ، وكذلك قوله تعالى لما ذكر أنه نودي في الوداي المقدس من الشجرة {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [القصص:٣٠-٣١] لاشك أن هذا هو الكلام.
فهل يقال: إن هذا تجريح؟ لاشك أن المعتزلة في تأولهم وفي تكلفهم قد وقعوا في تحريفهم للكلم عن مواضعه، وأشبهوا في ذلك اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
وأول من أظهر ذلك القول هو الجهم بن صفوان، وكان قد أخذه عن شيمته الجعد بن درهم الذي لما قرأ في القرآن أن الله كلم موسى أنكر ذلك وقال: ما كلم الله موسى، وما اتخذ الله اتخذ إبراهيم خليلاً -والخليل هو الحبيب- أنكر ذلك وقال: لم يكن الله ليحب أحداً، ولا ليتخذ أحداً خليلاً.
فاشتهرت هذه المقالة عنه فقتل في القصة المشهورة التي ذكرها البخاري بسنده في خلق أفعال العباد، وهي أنه أوثقه أمير الكوفة- خالد القسري، ثم خطب الناس في يوم العيد، ولما انتهى من خطبته قال لهم: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولا كلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً.
ثم نزل فقتله، فجعله بمنزلة الأضحية التي تذبح في يوم العيد، وكان أضحيته، أي: تقرب بها إلى الله تعالى.
وذكر ذلك ابن القيم في أول النونية في قوله: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان إذا قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان فذكر السبب أنه قال: ليس إبراهيم خليل الرحمن، وليس موسى كليم الرحمن، ولم يكلم الله أحداً من خلقه.