[بدعة الجهمية منشؤها ومحنة الناس فيها]
حدثت بعد ذلك بدعة القدرية الذين ينكرون العلم السابق، ثم حدثت بعدهم بدعة التعطيل أو الاعتزال، وهي بدعة إنكار الصفات، وكان حدوثها في أول القرن الثاني، ولما انتشرت هذه البدعة وانتشر أهلها الذين يعطلون الله تعالى عن صفات الكمال وينكرون أن يوصف بما وصف به نفسه ويبالغون في إنكار الصفات أنكر عليهم السلف إنكاراً بليغاً وبدعوهم، وشنعوا عليهم وحذروا منهم، وصار كلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في التحذير من هذه البدعة التي سموا أهلها جهميةً، وذلك لأن أول من انتشرت عنه الجهم بن صفوان فهو الذي نشر بدعة إنكار الصفات، ولا شك أن كتب السلف رحمهم الله تعالج هذه البدع كلها، فمنهم من كتب في ذلك ويذكر العقيدة مجردة ويقول: نعتقد كذا ونعتقد كذا وكذا كذا.
ولا مناقشة، ولا يذكر أقوال المبتدعة، ومنهم من يذكر البدع ويذكر الرد عليها، سواءٌ أكانت تلك البدع شبهات أم نحلاً، فيناقشونها ويبالغون في الرد على أهلها، ومنهم من يقتصر على الأدلة والآثار المنقولة عن السلف والأحاديث المأثورة المرفوعة أو الموقوفة، فباقتصارهم عليها يظهر الحق ويستبين ويعرف الباطل، وبضدها تتبين الأشياء.
ولا شك أن كلامهم رحمهم الله كله في نصر الحق وإظهاره، ومعلوم أن بدعة الجهمية تمكنت في أول القرن الثالث، حيث إن الجهمية انضموا إلى بعض الخلفاء، كالخليفة المأمون بن الرشيد، فإنه انضم إليه بعض المبتدعة وقربهم، وذلك لأنه أحسن الظن بهم، ورأى فيهم بلاغة وفصاحة وقوة أسلوب وحسن تعبير، فظن أنهم على الحق، ومن أشهر الذين قربهم: ابن أبي دؤاد المبتدع الضال الذي أفسد عقيدة المسلمين في زمانه، ومال إليه الخليفة المأمون.
وفي خلافة المأمون بالغ في تعذيب أهل السنة وتهديدهم في مسألة أن القرآن مخلوق، وكذلك تبعه أخوه المعتصم، ومشهور بأنه امتحن العلماء وضربهم وحبس من حبس منهم، وأوذي من أوذي من أهل السنة، وأجاب كثير معهم إلى ما طلب منهم، وادعوا بعد ذلك أنهم مكرهون، وتمسك من تمسك منهم.
وكان من الذين تمسكوا بعقيدة أهل السنة الإمام أحمد، ولهذا يسمى (ناصر السنة) ، ويسمى (إمام أهل السنة) ، وقصته طويلة تجدوها في تاريخه، وذكر في ترجمته -عند ابن كثير في البداية والنهاية- قصة ضربه بين يدي المعتصم وصبره على ذلك، وكذلك ذكرها ابن الجوزي في ترجمته، وقد ألف ابن الجوزي كتاباً كله في ترجمة الإمام أحمد، وهو كتاب كبير.
ومن كتب التاريخ تاريخ الذهبي، وهو مطبوع أيضاً، ونقل ترجمته أحمد محمد جعكر في أول كتاب (تحقيق المسند) من تاريخ الذهبي وفيها قصة تعذيبه، وأشار إلى ذلك كثير من الذين ترجموا له، ومنهم صاحب المنظومة التي يمدحه ويقول فيها: ومذهب الإمام أحمد بن محمد أعني ابن حنبل الفتى الشيباني ثم يقول فيها: ويقول عند الضرب لست بتابع يا ويحكم لكم بلا برهان أترون أني خائف من ضربكم لا والإله الواحد المنان كن حنبلياً ما حييت فإنني أوصيك خير وصية الإخوان ولقد نصحتك فإن قبلت فأحمد زين الثقات وسيد الفتيان إلى أن قال: حمداً لربي أن هداني لدينه وعلى طريقة أحمد أنشاني واختار مذهب أحمد لي مذهباً ومن الهوى والغي قد أنجاني فالحاصل أنه من الذين صبروا على هذه الفتنة وصابروا فيها إلى أن أظهره الله تعالى، ففي عهد المعتصم لقي أذى وعذاباً وضرباً وحبساً وبقي في الحبس مدة طويلة، وكان يتورع أن يأكل شيئاً من طعامهم، ويبقى اليومين والثلاثة لا يطعم لهم طعاماً حتى يأتيه أحد أولاده بشيء من الخبز من بيته الذي عرف مدخله، وبعد موت المعتصم بثمان سنين وانتقال الخلافة إلى ابنه الواثق خفف الابتلاء، ولكن لم يزل أهل السنة يخافون من إظهارها ويستخفون في معتقدهم.
ثم بعد موته تولى ولده المتوكل، ولما تولى نَصَر السنة وقرب الإمام أحمد ورخص له أن يصدع بمذهبه، وأفصح بما كان يعتقده أهل السنة من أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبقي الأمر كذلك إلى أن توفي الإمام أحمد رحمه الله في سنة إحدى وأربعين ومائتين والأمر هادئ، واستمرت بقية القرن والسنة فيها ظاهرة، ولكن لأهل البدع قوة وتمكن، وبالأخص المعتزلة، فقد كانوا من أقوى أهل البدع من ناحية الحجج العقلية، فكانوا يأتون بالشبهات العقلية ويشوهون بها على الناس ويشوشون بها، وغسلوا أدمغة كثير من المسلمين العوام، وملؤوا تلك الأدمغة بتلك البدع، وبالأخص بدعة إنكار الصفات الذاتية والصفات الفعلية.
ثم انتشرت في آخر القرن الثالث والرابع وما بعده اصطلاحات يرددها المبتدعة في الصفات وفي إنكارها، كنفي التجسيم، ونفي الحيز والجهة والأبعاض والأجزاء والأعراض والتركيب والحوادث وحلولها وما أشبه ذلك، فصاروا يلقنون هذا تلامذتهم، ويذكرون أن نفيها إنما هو من باب التنزيه لله تعالى، فتمكنت هذه الكلمات في أهل ذلك الزمان واعتقدوا صحتها وسلامتها، وهي في الحقيقة أمور لم يرد فيها دليل، والمسلمون من أهل السنة لم يستعملوها نفياً ولا إثباتاً.
وبعد انقضاء القرن الثالث كادت السنة أن تضيع، وكاد المحدثون أن لا يبقوا على المعتقد، وتمكن مذهب النفاة والمعطلة، واضمحل مذهب الإمام أحمد أو كاد أن يضمحل، ولم يبق عليه إلا أفراد يتسترون لا يعرفون إلا أنهم من أتباعه، ويستخفون بما هم عليه، وبقوا كذلك طوال هذه القرون ولا يعرف من ينصر السنة إلا أفراد قلة.
وممن كان على مذهب الإمام أحمد في العقيدة عالم في أول القرن الرابع، وهو الإمام البربهاري، فقد أظهر عقيدة أهل السنة، وأظهر بأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وبأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، وأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، وقام يفصلها، فقامت عليه الدنيا ولم تقعد، وحاربوه، وبدعوه وضللوه وهددوه بالقتل وبالسجن، واستخفى منهم استخفاء كثيراً، وصار مهدداً، هذا وهو فرد واحد بين أهل زمانه الذين هم أمم كثيرون، ولكن نصره الله كما نصر إمامه أحمد بن حنبل، وله كتاب مطبوع في العقيدة اسمه: (شرح السنة) ، إذا قرأته تعرف أنه متأثر بالسنة، وأنه على هذه العقيدة الراسخة وهي عقيدة أهل السنة، أما بقية أهل زمانه فمن كان منهم من أهل السنة فإنه متستر، وإلا فالبقية قد تركوا السنة الصحيحة.