لما اصطلح النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في صلح الحديبية على أن يرجعوا في ذلك العام، وعلى أن من جاءهم مسلماً من أهل مكة يردونه إلى أهل مكة، ومن ارتد من المسلمين فإنه لا يرد على المسلمين كانت هذه الشروط مما ساءت الصحابة جميعاً، وتمنوا أنهم يدخلون مكة ويقاتلون، وقد كانوا بايعوا قبل ذلك بيعة الرضوان، فاستاء لذلك الصحابة، وكان ممن ظهر استياؤه عمر رضي الله عنه، فهو الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى.
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى.
قال: ألست تعدنا أننا ندخل مكة ونطوف بالبيت قال: بلى.
ولكن هل قلت لك: إنك تدخلها هذا العام؟ قال: لا.
قال: فإنك داخل البيت ومطوف به.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله، ولن يضيعني، ولست أعصيه) .
هذه قصة عمر في هذه المقالة، فماذا تفهم منها أيها السني؟ أفهم منها أنها دليل على حماسه وغيرته، وأنه يحب أن يتجشم المشقة ويقاتل ولو قتل؛ لأنه إذا قتل فإنه في الجنة، وأنه مع ذلك يحب أن يذل هؤلاء الكفار الذين أخرجوا الرسول من بلده وصدوه عن البيت، وتحمس أيضاً لأن بعضاً من الذين يأتون مسلمين مع ذلك يردون إلى المشركين ويلقون الأذى والعذاب، هذه أفعال تدل على حماسه وغيرته، وتدل على محبته للجهاد وللتفاني في سبيل الله ولنصرة الإسلام.
هذا الذي نفهم منها، ولكن الرافضة تحملها ما لا تحتمل، وقالوا: إنه بذلك ينتقد حكم الرسول، ويعترض على حكم الله ورسوله، إنه بذلك يرد تدبير الرسول ويرد أمره، إن ذلك دليل على حقده على دين الإسلام.
وغير ذلك، فجعلوها مثالب وحملوها ما لا تحتمل.
وعمر رضي الله عنه ندم بعد ذلك، يقول:(فعملت لذلك أعمالاً) يعني: بسبب هذا الاعتراض، فتجرأت وتسرعت ومع ذلك فإني ندمت على ذلك وعملت أعمالاً صالحة أكفر بها مما فعلت.
لا شك أنه ما حمله على هذا إلا الحماس، ثم أيضاً ليس هو وحده الذي كره ذلك، كل الصحابة كرهوا هذا الصلح، حتى إنه لما أمرهم بأن يحلقوا وبأن يتحللوا توقفوا، وقالوا: أنحلق قبل أن نكمل عمرتنا؟! فامتنعوا كلهم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرها أنه يأمر ولا ينفذ أمره، فأرشدته إلى أن يخرج ويدعو الحلاق فيحلق رأسه، فلما رأوه بدأ يحلق رأسه أخذ بعضهم يحلق لبعض، فكراهيتهم لذلك كلهم يدل على أنهم يحبون أن يقاتلوا المشركين ولا يرجعوا قبل أن يكملوا عمرتهم، ومنهم عمر، ولكن الرافضة ما توجهوا إلا على عمر.