[الرد على شبهة المعتزلة بخلق القرآن]
لما أنكر المعتزلة صفة الكلام وقالوا: إن ذلك يستدعي تشبيهاً بين لهم أهل السنة أنه لا يستدعي تشبيهاً، فالله تعالى يتكلم كما يشاء، ولا يلزم أن يكون كلامه يخرج من المخارج التي يخرج منها كلام الآدمي، فلا يلزم أن يكون هناك قصبة هوائية، ولا أن يكون هناك لهاة أو أسنان أو شفتان أو لسان أو نحو ذلك، فإن الله تعالى قادر على أن يتكلم كما يشاء، ونحن الآن نشاهد الأدوات التي يخرج منها الكلام، وليس لها هذه الأدوات التي لدينا، فعندنا -مثلاً- هذه الأشرطة التي هي جماد، ومع ذلك تسجل الكلام وتحفظه، ثم بعد ذلك يخرج كما هو، ولا نقول: إن هذا الحديد أو إن هذه الأشرطة لها ألسنة وقصبات وشفاه وما أشبه ذلك، بل يخرج منها الكلام كما دخل، فلا يلزم أن يكون هناك ما التزموه.
إذاً فالله تعالى قادر على أن يتكلم كما يشاء، وأن يسمع كلامه من شاء من عباده كما أسمعه موسى، وكما كلم نبينا صلى الله عليهما وسلم ليلة الإسراء.
وبعد أن أنكر المعتزلة هذه الصفة احتج عليهم أهل السنة بالقرآن، وقيل: إذا قلتم: إن الله تعالى لا يتكلم نخصمكم بالقرآن؛ لأن القرآن من الله تعالى فهو كلامه.
فعند ذلك انتقلوا إلى حجة أخرى، ألا وهي أنه مخلوق، سبحان الله! أليس من الأعراض؟ فكيف يكون العرض مخلوقاً؟ فقالوا: مخلوق.
قيل لهم: كيف خلقه؟ قالوا: خلقه كما خلق الأرض والشجر والبشر والأعراض والجواهر وما أشبهها.
فقيل لهم: كيف خلقه؟ قالوا: مخلوق فقط.
يحاول خصومهم أن يجدوا جواباً واضحاً يتضح به أنهم يقولون بأنه مخلوق بصفة كذا وكذا، ولكنهم يتوقفون عند كلمة (مخلوق) .
فلما تمكنت هذه الشبهة عند ذلك أوضح العلماء رحمهم الله ما عندهم من العلم وما يعتقدونه، فأوضحوا بأن القرآن كلام الله تكلم به كما شاء، وأنه من جملة كلام الله، وكلام الله تعالى ليس بمحصور، بل لا يمكن حصره، كذلك أيضاً الكتب التي أنزلها على الأنبياء كلها كلامه، فالتوراة والإنجيل والزبور كلامه، والصحف التي أنزلها على موسى وعلى إبراهيم كما قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:٣٦-٣٧] هي كلام الله، والألواح التي أعطاها الله موسى هي كلامه، كما في قوله تعالى: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} [الأعراف:١٥٠] ، وقوله تعالى: {أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف:١٥٤] ، وكذلك: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:١٤٥] لا شك أن هذه كلها كلام الله تكلم بها كما يشاء.
وإذا اعتقدنا أنها كلام الله فإننا نعتقد أنه تكلم بها حقيقة، وأنه أوحاها إلى أنبيائه من البشر بواسطة رسله من الملائكة، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:١٩٢-١٩٥] يعني: جعله الله تعالى بهذا اللسان العربي الواضح الذي يكون مفهوماً للمخاطبين.
إذاً فهو كلام الله أنزله على أنبيائه، وكل من أنزل عليه وحي فإنه كلامه، ينزل عليهم كلامه الذي تكلم به كما يشاء، فالقرآن كيفما تلي وكيفما قرأ فهو كلام الله لا يخرج عن ذلك، إذا كتب في المصاحف فهو كلام الله، وإذا سمعنا القارئ يقرؤه فهو كلام الله تعالى، وإذا حفظه الحافظ في صدره قلنا: هذا يحفظ كلام الله تعالى.
وإذا رتله قلنا: هذا يرتل كلام الله.
وإذا لحنه فإنا نقول: هذا يلحن كلام الله.
فالكلام في الأصل هو الكلام الذي يتكلم به الله تعالى كيفما قرئ وتلي وتصرف في قراءة القارئ وبألفاظ القراء، فهو كلام الله يحفظونه في صدورهم، وهو كلام الله يكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله تعالى لا شيء منه مخلوق، ابتدأ الله تعالى كلامه وإليه يعود، كما ورد في الأحاديث أنه في آخر الزمان يمسح من المصاحف والصدور، عندما لا يعمل به، فهو كلام الله تعالى منزل غير مخلوق.
وإذا قرأه القارئ فإننا نقول: حركات القارئ مخلوقة، وأما نفس الحروف التي يقرأها والكلام الذي ينطق به فإنه غير مخلوق، بل هو كلام الله، وكلام الله تعالى من علمه، وعلمه ليس بمخلوق؛ لكونه صفة من صفاته، ومن ادعى أن علم الله تعالى أو شيئاً من صفاته الذاتية مخلوقة فقد كفر؛ حيث جعل ربه الذي هو خالق كل شيء محلاً للحوادث.