إن الله سبحانه قد أقام الحجج, وقطع الأعذار، وبين الخير والشر، وهدى من هدى فضلاً منه، وأعطى الجميع قدرة تناسبهم ومكنهم، وأعطاهم السمع والبصر والفؤاد والقوة والأيدي والأرجل يعملون ويتمكنون، وهكذا، فأمرهم بأن يعملوا، فمنهم من عمل ومنهم من لم يعمل.
وهذا فيما يتعلق بالأعمال الصالحة وغيرها، وهذا أيضاً يطرد على الأعمال الدنيوية، وذلك لأن الله تعالى أعطى الإنسان القدرة على مزاولة الأعمال والتكسب وتحصيل الأرزاق، فليس قوت الإنسان ينزل عليه من السماء طعاماً ناضجاً، ولكن يؤمر بأن يتكسب ويتسبب ويحترف ويحرث ويستعمل ما أعطاه الله من القوة، فهو بهذا يستطيع مزاولة الأعمال الدنيوية، وهذه القدرة التي مكنه الله تعالى منها هي خاضعة لقدرة الله، ولو شاء لشل حركته كما يفعل بالمعوقين، أو لأقعده فلم يستطع القيام، ولشل يديه فلم يستطع العمل، ولأخرس لسانه فلا يستطيع النطق، ولأعمى بصره وأصم سمعه فلم يستطع السمع والبصر، كما فعل ذلك بمن شاء من خلقه، ولكن أعطاه هذه الأمور حتى يعمل لدنياه ولآخرته.
ومن طبع الإنسان أنه ينبعث لطلب المكاسب والرزق، كما أن من طبع الحيوان والبهائم أنها تنتشر في الأرض وتطلب الرزق، ولا تجلس في أوكارها ولا بيوتها، والطيور أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تتقلب:(تغدو خماصاً وتروح بطاناً) ، والبهائم إذا أطلقت فإنها تنتشر في الأرض وترعى بأفواهها، والإنسان كذلك ينتشر في الأرض ويطلب الرزق {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك:١٥] يمشي في مناكبها فيحرث إذا كان يستطيع، ويحفر إذا كان يحفر، ويتكسب بأنواع المكاسب، ويتعاطى حرفة وصناعة أو ما أشبه ذلك ليحصل منها على قوته الذي يقتات به، فكما أنه لا يجلس في منزله ويطلب الرزق أن ينزل عليه من السماء نقول له: فكذلك الآخرة اعمل لها كما تعمل للدنيا، ولا تعتمد على القضاء والقدر وتقول: ما هداني الله، ولو هداني الله لفعلت كذا وكذا.
وقد عاب الله تعالى على الذين يقولون هذا، كما في قوله تعالى:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}[الزمر:٥٦-٥٧] كأنهم يحتجون بالقدر، وأن الله ما هداهم، فإذا رأيت الذين يقولون هذا فقل: إن الله أعطاك ما تقدر به.
وكثيراً ما ننصح بعض الجهلة ونقول لهم: استقيموا على طاعة الله، وأقيموا عبادة الله، وأنقذوا أنفسكم من عذاب الله فيحتجون بالقدر، ويقول أحدهم:{لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}[الزمر:٥٧] ، وما علم أن الله تعالى قد أعطاه أسباب الهداية، كما في قول الله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:٧-٨] .
والكلام على هذه المسألة -مسألة الاحتجاج بالقدر- طويل فكثيراً ما نلقى منهم عنتاً وتعنتاً وصعوبة رد، حيث إن هؤلاء العصاة يتمادون في معصيتهم ولا يرجعون إلى رشدهم ولا إلى الحق، فيقال لهم: أربعوا على أنفسكم، فأنتم الآن لا توافقون على الاعتداء عليكم، فكيف نجمع بين هذين النقيضين؟ ولعله يأتينا زيادة بحث في هذا.