أنكر بعضهم أيضاً عذاب القبر، وقالوا: كيف لم يذكر في القرآن مع أنه من أركان الإيمان ومن أصوله؟ فأجاب عن ذلك ابن القيم بجوابين: مجمل ومفصل.
فالمجمل يقول فيه: ثبت بالسنة وفي السنة كفاية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالكتاب والسنة، فإذا بينه في سنته وبين أسبابه وبين العذاب الذي يحصل به وبين نوعه وذكر بعض الأعمال التي يعذب بها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) ، وفي الحديث:(أنه مَرَّ باثنين يعذبان في قبريهما فقال: أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة) ، ثم ذكر أيضاً أن هذين من أسباب العذاب في القبر، ومر على مقبرة وسمع فيها صياحاً فقال:(يهود تعذب في قبورها) .
لا شك أن مثل هذا أدلة واضحة، وكذلك الأمر بالاستعاذة من عذاب القبر في أحاديث كثيرة قد تبلغ حد التواتر، قد تكون -مثلاً- مائة حديث كلها في عذاب القبر، ألا يكون ذلك دليلاً؟! ألا يكون ذلك كافياً؟! يكفي أن نعتقد أن عذاب القبر ثابت، وأنه دلت عليه السنة النبوية فنقبلها ونتقبلها.
هذا جواب.
والجواب الثاني جواب مفصل، ذكر فيه بعض الأدلة -وقد أشار إلى بعضها الإسماعيلي - يقول: إن عذاب القبر حق، يعذب الله من استحقه إن شاء وإن شاء عفا عنه.
ثم ذكر أدلة، فالدليل الأول هذه الآية في سورة غافر:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:٤٦] أثبت لهم ما بقوا في الدنيا عذاباً بالغدو والعشي دون ما بينهما، فإذا قامت القيامة عذبوا أشد العذاب.
ذكر بعضهم أنهم كشف لهم ورأوا في الصباح طيوراً تذهب إلى جهة وهي بيض، ثم ترجع في المساء وهي سود، فسألوا عن ذلك فقال بعضهم: هذه أرواح آل فرعون تذهب في الصباح وهي منعمة -يعني: بيضاء- فتلقى في النار وتحترق فيها وتعذب وترجع في العشي وقد انقلبت إلى السواد من الحرق يعني أن الله تعالى قادر على أن يجعلها في أجساد هذه الطيور كما فعل ذلك بالشهداء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة) أرواحهم فارقت أجسادهم، والله تعالى ذكر أنهم:{أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:١٦٩] ، فعلى هذا جعلت أرواحهم في أجواف الطير حتى يكون لها إحساس، واختير أن يكون الطير أخضر تدخل في الجنة وتعلق في شجر الجنة وتأكل من ثمارها وأزهارها حتى ترد إلى أجسادها.
فعلى هذا أرواح المؤمنين تنعم، سواء جعلت في أجواف الطير أو مستقلة، وأرواح الكافرين كآل فرعون تعذب فتحرق في النار وتلقى فيها وتتألم بهذا التألم الذي ذكره الله إلى أن تنقضي الدنيا، ويأتي يوم القيامة فيقال:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:٤٦] .