[سبب تسمية المرجئة]
قيل: إنهم سموا (مرجئة) لأنهم أرجأوا الأعمال عن مسمى الإيمان.
أي: أخروها.
قال تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب:٥١] يعني: تؤخر.
فسموا (مرجئةً) ؛ لأنهم أرجأوا -أي: أخروا الأعمال- عن مسمى الإيمان، ولا شك أن هذا تهاون بالأسماء الشرعية.
وقيل: إنهم سموا (مرجئة) ؛ لأنهم غلبوا باب الرجاء.
أي: أنهم اعتمدوا على أحاديث الرجاء، حيث جاء في القرآن آيات في تغليب الرجاء، وجاء فيه آيات في تغليب الخوف أو في الأمر بالخوف، وقد تكلم العلماء على آيات الرجاء وآيات الخوف وقالوا: ينبغي للإنسان في حالة النشاط والقوة أن يغلب جانب الخوف وأن يكثر من الأعمال الصالحة، ويهرب من السيئات، ويخاف من التفريط والإهمال، ويكون دائماً خائفاً فزعاً يحذر عذاب الله ويخشى نقمته وعقوبته، أما إذا نزل به الأمر وحضره الأجل فيفضل أن يغلب جانب الرجاء حتى يقدم على ربه تعالى وهو يحسن الظن به، كما ورد في الحديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) .
وذهب بعضهم إلى أنك في حالة الدنيا تعمل بهما جميعاً، أي: تعمل بالخوف وبالرجاء، فلا تغلب الرجاء فتكون من المرجئة، ولا تغلب الخوف فتكون من الوعيدية كالخوارج والمعتزلة، بل تتوسط، والتوسط بينهما أن يكون دائماً خائفاً راجياً، واستدل على ذلك بالآيات التي فيها الجمع بينهما، كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:٥٧] فجمع بينهما (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) ، هذا في جانب الرجاء، فقال: (وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) ، هذا في جانب الخوف.
وهكذا أيضاً يذكر الله آية الرجاء ثم آية الخوف، قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:٦] انظر كيف جمع بينهما، وقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:٣] أتبع العقاب بالمغفرة، وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:٤٩-٥٠] ، فجمع بينهما في آيتين متتابعتين.
والحكمة في ذلك أن يكون المؤمن في حياته جامعاً بينهما، فإذا تذكر عذاب الله تعالى خاف خوفاً شديداً وأكثر من الأعمال الصالحة، وإذا تذكر سعة رحمة الله تعالى رجاها وعمل الأعمال الصالحة التي تدفعه إلى رضى الله تعالى وتؤهله لأن يكون من أوليائه.
وقد ورد في الأثر أن من كبائر الذنوب الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله، وكلها مأخوذة من القرآن، فالقنوط في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:٥٦] ، وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] ، فاليأس هو قطع الرجاء، وكذلك القنوط هو قطع الرجاء بالكلية من رحمة الله تعالى، فلو قدر -مثلاً- أن إنساناً شب على الذنوب وأكثر منها وحمل نفسه ما لا تطيق من السيئات فإنه مع ذلك لا يقنط ولا يقل: أنا قد عملت سيئة كبيرة فلا يمكن أن تنالني الرحمة، وأنا مقدم على النار، وأنا سأصبر على النار حيث إني عملت كذا وكذا من السيئات وعملت من الكفر والتكذيب كذا وكذا.
فيقطع الرجاء ولا يجوز له ذلك، بل عليه أن يستحضر رحمة الله تعالى ويرجوه حتى يرحمه ربه.
وكذلك أيضاً قسم آخر ذكروه في قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩] ، فالأمن من مكر الله أيضاً من كبائر الذنوب، وذلك لأن هؤلاء الذين ينهمكون في المعاصي ويكثرون منها ولا يخافون نقمة الله ولا بطشه ولا عذابه يعتبرون كأنهم آمنين، كأن عندهم صك أمان أنهم لا يدخلون النار، أو صك أمان أنهم لا يعذبون وأنهم آمنون من غضب الله تعالى ونقمته.