يتكرر إسناد المشيئة إلى الله تعالى في الآيات والأحاديث، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال في الدعاء:(ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن) .
ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[التكوير:٢٩] ، وقوله:{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[المدثر:٥٦] ، ولا شك أن الله تعالى قد أعطى العباد مشيئة تناسبهم، ولكن مشيئتهم مرتبطة بمشيئة الله، فلا يشاؤون إلا ما شاءه الله، فهو أولاً أثبت لهم المشيئة:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}[التكوير:٢٨] ، ثم ربط مشيئتهم بمشيئته:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[التكوير:٢٩] ، ومن هنا نعرف أن مشيئة الله تعالى غالبة لمشيئة العبد، وأن العبد له مشيئة تناسبه.
ذلك أن الله أعطاه قوة يزاول بها الأعمال وتنسب إليه، سواءٌ أكانت أعمالاً بدنية، أم قلبية، أم قولية، فإنها تنسب إليه، كما نسب الله تعالى بعض الأقوال إلى أصحابها، فنسب الله إلى فرعون قوله:{أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى}[النازعات:٢٤] ، وقوله:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:٣٨] ، ولو شاء الله تعالى لأخرس لسانه ولم ينطق بهذه الكلمة، وكذلك النمرود الذي قال:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}[البقرة:٢٥٨] لو شاء الله لأعجمه وحال بينه وبين أن ينطق بهذه الكلمة الكفرية، ولكن الله تعالى مكنه منها، فالكلمة تنسب إليه، ويعاقب عليها ويحاسب، وهي داخلة تحت مشيئة الله تعالى، فهو الذي مكنه وأقدره على ذلك، وتنسب الأفعال إلى العباد لأنهم مصدرها.
وكذلك الأعمال الصالحة تنسب إليهم لأنهم الذين باشروها ولو كان وجودها متوقفاً على إرادة الله تعالى وقدرته ومشيئته، يقول الله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}[يونس:٩٩] ،يعني: لو شاء مشيئة قدرية لآمنوا، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً واهتدوا كلهم، ولكن حكمته اقتضت أن يكون منهم بر وفاجر، ومؤمن وكافر، وذلك كله خاضع لإرادة الله تعالى، حيث خلق دارين الجنة والنار، وجعل لكل منهما أهلاً.
ولو أنه أعطى كل نفس هداها وهدى الناس كلهم لما كان هناك فرق بين المؤمن والكافر، ولما كان هناك جنة ونار، لكن جعل من حكمته أنه هذا ميله إلى الكفر، وهذا ميله إلى الإسلام، فمكن لهؤلاء ومكن لهؤلاء، قال تعالى:{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:٤] ، فإذا شاء الله تعالى خضعوا وأقبلوا كلهم وأنابوا إلى ربهم، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكونوا قسمين, وأن يكونوا في الآخرة فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، مع أن الحجة لله عليهم، فإذا قالوا:{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[يس:٤٧] ف
الجواب
إن الله أعطاكم قدرة ومشيئة تناسبكم تقدرون بها على أن تطعموا من تريدون إطعامه.
وإذا قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا}[النحل:٣٥] فالجواب أن نقول: مشيئة الله نافذة، ولكنه سبحانه قد مكنكم وأعطاكم هذه المشيئة التي تناسبكم وتستطيعون بها مزاولة الأعمال والبقاء عليها، فأنتم قد مكنكم الله، وأعطاكم السمع والبصر والأفئدة، وفتح لكم أبواب المعرفة، وأقام عليكم الحجة، وأزال عنكم الأعذار، وبين لكم طرق الخير وطرق الشر، وهدى من شاء فضلاً منه، وأضل من شاء عدلاً منه، وجعل هناك وسائل تجذب هؤلاء إلى الخير ووسائل تصد هؤلاء عن الشر، فسلط على الإنسان أعداءه من الشياطين، كما في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}[مريم:٨٣] هي فتنة وابتلاء من الله، وخص الكفار بالشياطين، قال الله تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} ، يعني: الكفار.