وقد سلَكَ العُلماءُ مَسلَكًا آخرَ في الجَمعِ بَينَ هذا الحَدِيثِ والأحاديثِ المانِعَةِ من الحَلِفِ بغير الله. فقالُوا: لَيسَ المقصُودُ بهذه اللَّفظةِ حَقِيقةُ الحَلِف، وَإِن خَرَجت بصُورَتِه، بل كانَت كَلمةً دارِجَةً على اللِّسان، مثلُ كَلمةِ:"ثَكِلَتكَ أُمُّكَ"، والتي كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقُولُها لبعض الصَّحَابة، ولا يَقصِدُ بها حَقِيقَةَ الدُّعاء بالثُّكْلِ، ولم يَكُن معهُودًا مِن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وهُو أَحسَنُ النَّاس خُلُقًا على الإطلاق، أَن يُوَاجِهَ أحدًا بِما يَكرَهُ، قولًا أو فِعلًا، إلَّا لمُقتَضًى شَرعِيٍّ، فكيف يسألُهُ مُعاذُ بن جَبَلٍ سُؤالًا استفهامِيًّا، لِيَعلَم الحُكمَ الشَّرعِيَّ، فيقُولُ له:"ثَكِلَتكَ أُمُّكَ يا مُعاذُ! "؟
وهذا الجوابُ عن لَفظَةِ "وأبيه" في الحديث هي عِندِي أَجوَدُ مِن دعوَى النَّسخ؛ لأنَّ هذه الدَّعوَى لا تَثبُتُ إلَّا بِبَيَانِ التَّاريخ، وهو مَعدُومٌ هُنا.
فالصَّحِيحُ: إِن كَانَ هُناكَ سبِيلٌ للجَمعِ بينَ الآثارِ التي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ دُون رُكُوبِ مَركَبِ التَّكَلُّفِ والتَّعَسُّفِ، وَجَب أن نَفعلَ ذلك؛ صيانةً للنُّصُوص الصَّحيحَةِ من الإِهمَالِ. وقد كان ابنُ عبد البَرِّ مِن أَبرَز العُلماء في هذا الباب، وكم مِن حَدِيثٍ ردَّ فيه دَعَوى الشُّذوذ، أو النَّكَارَة، بوجهٍ مِن وُجُوه الجَمع المعرُوفَةِ.
ومثال ذلك …
ما رواه حَمَّادُ بنُ زَيدٍ، عن ثابتٍ، عن أَنَسٍ، قال: دَعَاء النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بماءٍ، فأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ، فجَعَلَ القومُ يَتوضَّئُون، فحَزَرْتُ ما بين السِّتِّين إلى الثَّمانِين، -قال:- فجَعَلتُ أَنظُرُ إلى الماء، يَنبُعُ مِن بين أَصابِعِه.