للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لَوْ بَعَثَ عَلَى يَدِ نَائِبِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَيُعْطِيَ قَائِمًا، وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَهُزُّهُ هَزًّا وَيَقُولُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَالْعُقُوبَاتُ إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْهُ. ثُمَّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْجِزْيَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى، حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْمُضِيِّ مَجَازًا.

وَقَدْ أَمْكَنَ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَالِ مِنْ الْحَيِّ مُمْكِنٌ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْإِسْلَامُ (بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ) وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ تَكَرَّرَ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ أَوْ السُّكْنَى أَوْ الْعِصْمَةِ، وَتَكَرَّرَ أَيْضًا فِيهِ أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ؛ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ غَيْرُ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ عَنْ شَيْءٍ فَيَلْزَمُ تَوَارُدُ عِلَّتَيْنِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهَا عُقُوبَةً لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ لِأَنَّ إيجَابَ النُّصْرَةِ لِغَيْرِ أَهْلِ دِينِهِ يَسْتَلْزِمُ عُقُوبَةً لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّلْبِيبُ أَخْذُ مَوْضِعِ اللَّبَبِ مِنْ الثِّيَابِ، وَاللَّبَبُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنْ الصَّدْرِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ) اسْتِدْلَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَلْزُومِ، وَمَا تَقَدَّمَ كَانَ مِنْ جِهَةِ اللَّازِمِ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَقَوْلُهُ (حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْمُضِيِّ مَجَازًا) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي قَوْلِهِ جَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مَضَتْ حَتَّى يَتَحَقَّقَ اجْتِمَاعُهُمَا لِأَنَّهَا عِنْدَ آخِرِ الْحَوْلِ تَجِبُ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْمَجَازِ لِأَنَّ مَجِيءَ كُلِّ شَهْرٍ بِمَجِيءِ أَوَّلِهِ. وَأَقُولُ فِي مُجَوِّزِ الْمَجَازِ أَنَّ مَجِيءَ الشَّهْرِ يَسْتَلْزِمُ مَجِيءَ الْآخَرِ لَا مَحَالَةَ وَذِكْرُ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ مَجَازٌ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ دُخُولُ أَوَّلِهَا لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ وَالتَّأْخِيرُ إلَى آخِرِهِ تَخْفِيفٌ وَتَأْجِيلٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>