للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ مِنْ الْخَصْمِ فَيَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، وَلَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ ، وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ قَدْ يَكُونُ نَائِبًا بِإِنَابَتِهِ كَالْوَكِيلِ

أَجْلِ الْفَوَائِدِ.

(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْإِقْرَارُ إلَخْ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَازَعَانِ وَيَشْتَبِهَ فِي وَجْهِ الْقَضَاءِ وَأُعْمِلَ الثَّانِي؛ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّأْنَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ، أَوْ وَجْهُ الْقَضَاءِ يَحْتَمِلُهُمَا مِنْ الْخَصْمِ فَيَشْتَبِهُ عَلَى الْحَاكِمِ وَجْهُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَيَظْهَرُ فِي الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْبُيُوعِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الرَّجُلُ لَمْ يَأْخُذْ وَلَدَهَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ كَاسْمِهَا مُبَيِّنَةٌ فَيَظْهَرُ مِلْكُ الْجَارِيَةِ مِنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ مُتَفَرِّعًا عَنْ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْمُسْتَحِقِّ وَلِهَذَا تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» فَإِنَّهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ كَوْنِ الْخَصْمِ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، أَوْ بِحَدِيثِ هِنْدٍ حَيْثُ قَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ: خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» فَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَهُوَ غَائِبٌ أَجَبْنَاهُ عَنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ مَتْرُوكَ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَقَرَّ لَيْسَ عَلَى الْمُدَّعِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلنِّزَاعِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ لَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِعَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ «لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ، فَإِنَّك إذَا سَمِعْت كَلَامَ الْآخَرِ عَلِمْت كَيْفَ تَقْضِي» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ حَدِيثِ هِنْدٍ بِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تُقِمْ الْبَيِّنَةَ (قَوْلُهُ: لَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ فَكَذَلِكَ) يَعْنِي لَا يَقْضِي الْقَاضِي فِي غَيْبَتِهِ وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْإِنْكَارُ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ وَسُمِعَتْ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ غَابَ قَبْلَ الْقَضَاءِ (؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ)؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً بِالْقَضَاءِ وَهُوَ الْجَوَابُ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِنَا سَيَأْتِي (وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ) فَإِنَّهُ يَقُولُ: الشَّرْطُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْإِنْكَارِ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ وَهُوَ ثَابِتٌ بَعْدَ غَيْبَتِهِ بِالِاسْتِصْحَابِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ يَصْلُحُ لِلرَّفْعِ لَا لِلْإِثْبَاتِ. قَالَ (وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ إلَخْ) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بَيَّنَ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَامَ الْحَاضِرِ مَقَامَ الْغَائِبِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ أَوْ يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا. وَالْأَوَّلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>