لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَضْعَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ فَيُسْتَدَلُّ بِالظُّهُورِ عَلَى الِانْتِقَالِ وَالْخُرُوجِ، وَمِلْءُ الْفَمِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ إلَّا بِتَكَلُّفٍ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَ خَارِجًا. وَقَالَ زُفَرُ ﵀: قَلِيلُ الْقَيْءِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ
وَالنِّفَاسِ، وَوَجَدُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَعَدُوًّا الْحُكْمَ الْأَوَّلَ إلَيْهِ، وَتَعَدِّي الْحُكْمِ الثَّانِي وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا ضَرُورَةُ تَعَدِّي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَدَّ إلَيْهِ تَغَيَّرَ حُكْمُ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ وَذَلِكَ يُفْسِدُ الْقِيَاسَ. فَإِنْ قِيلَ التَّغَيُّرُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْخُرُوجِ مُؤَثِّرٌ فِي الْأَصْلِ وَاعْتَبَرْتُمْ فِي الْفَرْعِ السَّيَلَانَ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْخُرُوجَ يَتَحَقَّقُ بِالسَّيَلَانِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ وَبِمِلْءِ الْفَمِ إلَخْ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَلَّا يَكُونَ الْأَصْلُ مَخْصُوصًا بِحُكْمِهِ بِنَصٍّ آخَرَ، وَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ ﷺ قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ»، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ مَخْصُوصٌ بِحُكْمِهِ وَهُوَ نَقْضُ الطَّهَارَةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَلِيلِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. وَيُجَابُ عَمَّا لَوْ قِيلَ وَمِنْ شَرْطِهِ أَلَّا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَيْتُمْ فِيهِ حَدِيثَيْنِ بِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ لَيْسَ بِمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ خِلَافَهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْأَصْلَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنًى مَعْقُولٍ وَمَعْنًى غَيْرِ مَعْقُولٍ، وَعَدَّيْتُمْ غَيْرَ الْمَعْقُولِ تَبَعًا لِلْمَعْقُولِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّغَيُّرُ الْمُفْسِدُ لِتَعْدِيَةِ الْمَعْقُولِ، فَهَلَّا تَرَكْتُمْ تَعْدِيَةَ غَيْرِ الْمَعْقُولِ وَجَعَلْتُمْ الْمَعْقُولَ تَبَعًا لَهُ فِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَعْقُولٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَمَشْرُوعٌ لِاعْتِبَارِهِ فِي الشَّرْعِ حَدَثًا، وَالثَّانِي مَشْرُوعٌ فَقَطْ فَجَعْلُهُ تَابِعًا لِلْأَوَّلِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ لَا مَحَالَةَ.
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا اعْتَبَرَ الْأَوَّلَ حَدَثًا اسْتَلْزَمَ الطَّهَارَةَ عِنْدَ تَكَرُّرِهِ، وَفِي غَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ كُلَّمَا وُجِدَ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الظَّاهِرِ تَيْسِيرًا عَلَيْنَا، فَكَانَ الثَّانِي مِنْ ضَرُورَاتِ الْأَوَّلِ فَكَانَ تَابِعًا لَهُ، وَعَرَّفَ مِلْءَ الْفَمِ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ.
وَقِيلَ إنْ مَنَعَ مِنْ الْكَلَامِ فَهُوَ مِلْؤُهُ وَإِلَّا فَلَا. وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمِلْءِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْفَمَ تَجَاذَبَ فِيهِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ ظَاهِرًا، وَالْآخَرُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ بَاطِنًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا. أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ إذَا فَتَحَ فَاهُ يَظْهَرُ، وَإِذَا ضَمَّهُ يُبْطِنُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الصَّائِمَ إذَا أَخَذَ الْمَاءَ بِفِيهِ ثُمَّ مَجَّهُ لَمْ يُفْسِدْ صَوْمَهُ كَمَا إذَا سَالَ الْمَاءُ عَلَى ظَاهِرِ جِلْدِهِ فَكَانَ ظَاهِرًا.
وَإِذَا ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ أَيْضًا كَمَا إذَا انْتَقَلَ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ بَطْنِهِ إلَى أُخْرَى فَكَانَ بَاطِنًا، فَوَفَّرْنَا عَلَى الدَّلِيلَيْنِ حُكْمَهُمَا فَقُلْنَا إذَا كَثُرَ يَنْقُضُ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ غَالِبًا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى ضَبْطِهِ إلَّا بِكُلْفَةٍ فَاعْتُبِرَ خَارِجًا، وَإِذَا قَلَّ لَا يَنْقُضُ فَيَصِيرُ تَبَعًا لِلرِّيقِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَ خَارِجًا. فَإِنْ قِيلَ: عَرَّفَ الْمُصَنِّفُ مِلْءَ الْفَمِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ وَالتَّعْرِيفَاتُ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ ظَاهِرًا لَيْسَ دَلِيلًا لِقَوْلِهِ وَمِلْءُ الْفَمِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ إلَخْ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَبِمِلْءِ الْفَمِ فِي الْقَيْءِ. قَالَ (وَقَالَ زُفَرُ: قَلِيلُ الْقَيْءِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ) قَالَ زُفَرُ ﵀: لَمَّا كَانَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثًا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الدَّلِيلِ وَجَبَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute