وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ وَأَشْبَهِهَا بِهِ احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِدِ مَا أَمْكَنَ
قَالَ: (وَيَصِحُّ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ﴾، الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ، حَتَّى أَنَّ مَا صَلَحَ مُسَمًّى فِيهِ صَلَحَ هَاهُنَا إِذْ كُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إِلَّا أَنَّ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ هُنَا يُصَارُ إِلَى الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا مُوجَبُ الدَّمِ. وَلَوْ صَالَحَ عَلَى خَمْرٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ الْعَفْوِ.
إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ (قَوْلُهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ) إشَارَةٌ إلَى أَقْرَبِ عَقْدٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي، وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَمَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ صَلَحَ هَاهُنَا، فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً جَازَ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْلُومَةَ صَلَحَتْ صَدَاقًا، فَكَذَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ وَإِنْ صَالَحَ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا لِجَهَالَتِهِ فَكَذَا بَدَلًا، وَلَا يُتَوَهَّمُ لُزُومُ الْعَكْسِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا هُوَ مُلْتَزِمٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا، وَأَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ مَنْ عَلَيْهِ عَنْ قِصَاصٍ لَهُ عَلَى آخَرَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ صَدَاقًا لِأَنَّ كَوْنَ الصَّدَاقِ مَالًا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ﴾ وَبَدَلُ الصُّلْحِ فِي الْقِصَاصِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيُكْتَفَى بِكَوْنِ الْعِوَضِ فِيهِ مُتَقَوِّمًا وَالْقِصَاصُ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى صَلَحَ الْمَالُ عِوَضًا عَنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عِوَضًا عَنْ قِصَاصٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ مَا صَلَحَ مُسَمًّى فِيهِ صُلْحٌ هَاهُنَا بِمَعْنَى لَكِنْ: أَيْ لَكِنْ إذَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ أَوْ بِتَسْمِيَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا إذَا صَالَحَ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ يُصَارُ إلَى الدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَيُصَارُ إلَى بَدَلِ مَا سَلَّمَ لَهُ مِنْ النَّفْسِ وَهُوَ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْبَدَلَ الصُّلْحُ لَا تَتَحَمَّلُهُ لِوُجُوبِهِ بِعُقْدَةٍ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى خَمْرٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُسَمَّ مَالًا مُتَقَوِّمًا صَارَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سِيَّيْنِ، وَلَوْ سَكَتَ لَبَقِيَ الْعَفْوُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute