للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا أَنْ يُكْرِهَهُ السُّلْطَانُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ.

مِنْ الْبَيْنُونَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرَهِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَا يَضْمَنُ بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: إنْ خَالَعَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَلْمُوسَةٍ فَاسْتَحَقَّتْ نِصْفَ الصَّدَاقِ هَلْ يَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْمُكْرَهِ لِتَأْكِيدِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ أَوْ لَا؟ قُلْنَا: لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ سَاقَ الزَّوْجُ الْمَهْرَ إلَيْهَا كُلَّهُ أَوَّلًا، فَإِنْ سَاقَ رَجَعَ عَلَى الْمُكْرَهِ بِنِصْفِهِ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى مَالٍ مُسَمًّى لَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ أَوْجَبَ الْبَرَاءَةَ لَكِنَّهَا بَرَاءَةُ مُكْرَهٍ وَالْبَرَاءَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَسُقْ رَجَعَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ.

قَالَ (وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا: إنْ أَكْرَهَهُ أَحَدٌ عَلَى الزِّنَا فَزَنَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِانْتِشَارِ آلَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَذَاذَةٍ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَمَعَ الْخَوْفِ يَتَحَقَّقُ التَّمْكِينُ مِنْهَا فَلَا يَكُونُ التَّمْكِينُ دَلِيلَ الطَّوَاعِيَةِ. ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ هُوَ السُّلْطَانُ، لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ وَلَا حَاجَةَ مَعَ الْإِكْرَاهِ، لِأَنَّ الِانْزِجَارَ كَانَ حَاصِلًا إلَى إنْ حَصَلَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ قَصْدُهُ بِهَذَا الْفِعْلِ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَانْتِشَارُ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ يَنْشُرُ مِنْ النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ. وَأَمَّا تَقْيِيدُ الْإِكْرَاهِ بِالسُّلْطَانِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ الْعَصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ، وَقِيلَ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ.

وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِكْرَاهِ كَوْنُهُ مُلْجِئًا وَذَلِكَ بِقُدْرَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِيقَاعِ، وَخَوْفُ الْمُكْرَهِ الْوُقُوعُ كَمَا مَرَّ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ أَكْثَرَ تَحَقُّقًا، لِأَنَّ السُّلْطَانَ يَعْلَمُ أَنْ لَا يَفُوتَهُ فَهُوَ ذُو أَنَاةٍ فِي أَمْرِهِ وَغَيْرُهُ يَخَافُ الْفَوْتَ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ فَيَجْعَلُ فِي الْإِيقَاعِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِ السُّلْطَانِ عَنْ نَفْسِهِ، إذْ لَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يَلْتَجِئُ إلَيْهِ وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ اللِّصِّ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنْ اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْمُكْرَهِ لَا يُحْسَبُ لَهَا الْمَهْرُ، لِأَنَّ الْحَدَّ وَالْمَهْرَ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْمَحَلِّ سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً عَلَى الْفِعْلِ أَوْ أَذِنَتْ لَهُ بِذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِسُقُوطِ حَقِّهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ لَيْسَ يَحِلُّ الْوَطْءَ فَكَانَ إذْنُهَا لَغْوًا لِكَوْنِهَا مَحْجُورَةً عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>