الْحَاكِمُ حَالَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا) لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِفْلَاسِ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ فَتَثْبُتُ الْعُسْرَةُ وَيَسْتَحِقُّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀: لَا يَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ تَعَالَى غَادٍ وَرَائِحٌ، وَلِأَنَّ وُقُوفَ الشُّهُودِ عَلَى عَدَمِ الْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا ظَاهِرًا فَيَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِإِبْطَالِ حَقِّ الْمُلَازَمَةِ. وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْعُسْرَةُ. وَقَوْلُهُ فِي الْمُلَازَمَةِ لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسٌ (وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ، وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِهِ دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ
(وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا يُلَازِمُهَا) لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تُلَازِمُهَا.
قَالَ (وَمَنْ أَفْلَسَ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ابْتَاعَهُ مِنْهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَى الْمُشْتَرِي بِطَلَبِهِ
ذَلِكَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ فَقَالَ: رَجُلٌ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةٍ وَلِآخَرَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَلِآخَرَ مِنْهُمْ مِائَتَانِ وَمَالُهُ خَمْسُمِائَةٍ، فَاجْتَمَعَ الْغُرَمَاءُ وَحَبَسُوهُ بِدُيُونِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَيْفَ يَقْسِمُ أَمْوَالَهُ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْمَدْيُونُ حَاضِرًا فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ دُيُونَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْقَضَاءِ، وَيُؤْثِرَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ فَيَنْصَرِفُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ غَائِبًا وَالدُّيُونُ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي فَالْقَاضِي يَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ، إذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ تَقْدِيمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ (بَيِّنَةُ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ) الْيَسَارُ اسْمٌ لِلْإِيسَارِ مِنْ أَيْسَرَ: أَيْ اسْتَغْنَى، وَالْإِعْسَارُ مَصْدَرُ أَعْسَرَ: أَيْ افْتَقَرَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى بَيِّنَةِ الْعِسَارِ بِمَعْنَى الْإِعْسَارِ. قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَهُوَ خَطَأٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا) لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْإِعْسَارِ تُؤَكِّدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْعُسْرَةُ فَصَارَ كَبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي مُقَابَلَةِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَقَوْلُهُ فِي الْمُلَازَمَةِ (لَا يَمْنَعُونَهُ إلَخْ) تَفْسِيرٌ لِلْمُلَازَمَةِ (وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسٌ) وَلَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ ﵀ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ أَوْ فِي بَيْتِهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالسِّكَكِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَيَتَضَرَّرُ الْمُدَّعِي (وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ) كَغَدَاءٍ أَوْ غَائِطٍ (لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَوْضِعِ خَلْوَةٍ) وَعَنْ هَذَا قِيلَ: إذَا أَعْطَاهُ الْغَدَاءَ أَوْ أَعَدَّ لَهُ مَوْضِعًا لِأَجْلِ الْغَائِطِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَهْرُبَ (وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ) وَالْأَشَدَّ (عَلَيْهِ إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِهِ دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ
دَفْعًا لِلضَّرَرِ
عَنْهُ) وَفِي مَعْنَاهُ مَنْعُهُ عَنْ الْإِكْسَابِ بِقَدْرِ قُوتِ يَوْمِهِ وَلِعِيَالِهِ.
(وَالدَّائِنُ الرَّجُلُ لَا يُلَازِمُ الْمَدْيُونَةَ لِاسْتِلْزَامِهَا الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، لَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تُلَازِمُهَا).
قَالَ (وَمَنْ أَفْلَسَ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ) إذَا اشْتَرَى مَتَاعًا مِنْ رَجُلٍ فَأَفْلَسَ وَالْمَتَاعُ بَاقٍ فِي يَدِهِ (فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: يَحْجُرُ الْقَاضِي بِطَلَبِ الْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي) حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute