وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ لِقَوْلِهِ ﵊ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ، قَالَهَا ثَلَاثَةً، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»
قَالَ: وَمَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَبِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ اعْتِبَارًا بِهَلَاكِ الصَّكِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ، وَالسُّقُوطُ بِالْهَلَاكِ يُضَادُّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ إذَا لَحِقَ بِهِ يَصِيرُ بِعَرْضِ الْهَلَاكِ وَهُوَ ضِدُّ الصِّيَانَةِ
وَلَنَا قَوْلُهُ ﵊ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ مَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ «ذَهَبَ حَقُّك» وَقَوْلُهُ ﵊ «إذَا غَمَّى الرَّهْنَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ» مَعْنَاهُ: عَلَى مَا قَالُوا إذَا اشْتَبَهَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَ مَا هَلَكَ
وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ﵃ عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ مَضْمُونٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَالْقَوْلُ بِالْأَمَانَةِ خَرْقٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ﵊ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» عَلَى مَا قَالُوا الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ وَالتَّمَكُّنُ بِأَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا لَهُ
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ السَّلَفِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللُّزُومَ أَوْ الْجَوَازَ بِالْقَبْضِ، إذْ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِاسْتِيفَاءُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ: أَيْ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ ﷺ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» قَالَهَا أَيْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ ثَلَاثًا «لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ»: أَيْ زَوَائِدُهُ «وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» أَيْ هَلَاكُهُ. قَالَ: وَمَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ: أَيْ الرَّهْنُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ لِيَزْدَادَ بِهِ الصِّيَانَةُ، فَلَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ. وَلَنَا «قَوْلُهُ ﷺ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَمَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ ذَهَبَ حَقُّك» وَحَقُّهُ الدَّيْنُ فَيَكُونُ ذَاهِبًا. لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ بِهِ ذَهَبَ حَقُّك مِنْ الْإِمْسَاكِ أَوْ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِرَهْنٍ آخَرَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُشَاهَدٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَقَّ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مُنَكَّرًا «أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا عِنْدَ رَجُلٍ بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ فَنَفَقَ الْفَرَسُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّك» فَذَكَرَ الْحَقَّ مُنَكَّرًا، ثُمَّ أَعَادَهُ مُعَرَّفًا. وَفِي ذَلِكَ يَكُونُ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَلَامُ الرَّاوِي وَالْآخَرُ كَلَامُ النَّبِيِّ ﵊، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّ الْمُنَكَّرَ كَانَ وَاقِعًا مِنْ الْمُرْتَهِنِ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ ﵊ «إذَا غَمَّى الرَّهْنَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ» مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالُوا: إذَا اشْتَبَهَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَمَا هَلَكَ: يَعْنِي إذَا قَالَ الرَّاهِنُ لَا أَدْرِي كَمْ كَانَ قِيمَتُهُ وَالْمُرْتَهِنُ كَذَلِكَ قَالَ: يَكُونُ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، حُكِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ.
وَقَوْلُهُ (مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ) يَعْنِي أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ﵁ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا: الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ﵁ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ. وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِهِ أَمَانَةً خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ﵊ «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ» عَلَى مَا قَالُوا: الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ: أَيْ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ عَنْ السَّلَفِ كَطَاوُوسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ ﵀: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا يُرَى أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الرَّهْنَ بِالشَّيْءِ وَفِي الرَّهْنِ فَضْلٌ عَمَّا رَهَنَ بِهِ، فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ إنْ جِئْتُك بِحَقِّك إلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك بِمَا فِيهِ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا يَحِلُّ، وَهَذَا الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُك بِمَا فِيهِ بَعْدَ الْأَجَلِ فَهُوَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ: ذَهَبُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَعْنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا إلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إذَا بِيعَ الرَّهْنُ بِثَمَنٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute