للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِهِ أَنَّ الْبِنَاءَ نَفْسُهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي. وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِأَنْ يَصِيرَ مُحَرَّرًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَنِيسَةُ لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً فَتَبْقَى مِلْكًا لِلِبَانِي فَتُورَثُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَهَا فَلَمْ يَتَحَرَّرْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُورَثُ الْمَسْجِدُ أَيْضًا لِعَدَمِ تَحَرُّرِهِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ مُقْتَضَاهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ فَبَقِيَ فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهُ فَيَزُولُ مِلْكُهُ فَلَا يُورَثُ.

ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ وَصَايَا الذِّمِّيِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَلَا تَكُونَ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا إذَا أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِأَنْ تُذْبَحَ خَنَازِيرُهُ وَتُطْعَمَ الْمُشْرِكِينَ، وَهَذِهِ عَلَى الْخِلَافِ إذَا كَانَ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ. وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَلَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِالْحَجِّ أَوْ بِأَنْ يُبْنَى مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ بِأَنْ يُسْرَجَ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِالْإِجْمَاعِ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ، إلَّا إذَا كَانَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ لِوُقُوعِهِ تَمْلِيكًا لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ وَالْجِهَةُ مَشُورَةٌ.

وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُسْرَجَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ يُغْزَى التَّرْكُ وَهُوَ مِنْ الرُّومِ، وَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً وَفِي مُعْتَقَدِهِمْ أَيْضًا. وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا لَا يَكُونُ قُرْبَةً لَا فِي حَقِّنَا وَلَا فِي حَقِّهِمْ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِلْمُغَنِّيَاتِ وَالنَّائِحَاتِ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَصِحُّ تَمْلِيكًا وَاسْتِخْلَافًا، وَصَاحِبُ الْهَوَى إنْ كَانَ لَا يَكْفُرُ فَهُوَ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ يَكْفُرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فَيَكُونُ

الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ حَقِيقَةً) بَلْ تُحَرَّرُ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ (فَتَبْقَى مِلْكًا لِلِبَانِي فَتُورَثُ عَنْهُ) وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيرِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إنَّ الْبِنَاءَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (لِأَنَّهُ وَضْعٌ) وَفِي قَوْلِهِ (ثُبُوتُ مُقْتَضَاهُ) وَقَوْلُهُ (فَبَقِيَ عَلَى مُقْتَضَاهُ) كُلُّهَا رَاجِعٌ إلَى الْوَصِيَّةِ بِتَأْوِيلِ الْإِيصَاءِ.

وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّ لَفْظَهَا تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي مُعْتَقَدِهِمْ، فَأَمَّا إذَا لَاقَتْ مَا هُوَ قُرْبَةٌ فِيهِ عَمِلَتْ عَمَلَهَا. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ وَصَايَا الذِّمِّيِّ إلَخْ) وَاضِحٌ (قَوْلُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ) يُرِيدُ بِهِ الْوَصِيَّةَ بِبِنَاءِ الْبِيعَةِ أَوْ الْكَنِيسَةِ. وَقَوْلُهُ (كَمَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي مِنْ الْخِلَافِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ. وَقَوْلُهُ (وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ) أَيْ: مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ اعْتِقَادُهُمْ، وَعِنْدَهُمَا أَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَعْصِيَةٍ. (قَوْلُهُ وَالْجِهَةُ مَشُورَةٌ) يَعْنِي أَنَّ كَلَامَهُ فِي صَرْفِ الْمَالِ الْمُوصِي بِهِ إلَى اسْتِضَاءَةِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهَا خَرَجَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَشُورَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِلْزَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>