وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَتَعَاقَبُ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِيَ مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْبَاقِيَ عَاجِزٌ عَنْ التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ فَيَضُمُّ الْقَاضِي إلَيْهِ وَصِيًّا آخَرَ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ عِنْدَ عَجْزِهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَالْمُوصِي قَصَدَ أَنْ يَخْلُفَهُ مُتَصَرِّفًا فِي حُقُوقِهِ، وَذَلِكَ مُمْكِنُ التَّحَقُّقِ بِنَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ مَكَانَ الْمَيِّتِ.
وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا أَوْصَى إلَى الْحَيِّ فَلِلْحَيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَحْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى شَخْصٍ آخَرَ. وَلَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى نَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ لِأَنَّ رَأْيَ الْمَيِّتِ بَاقٍ حُكْمًا بِرَأْيِ مَنْ يَخْلُفُهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ مَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِرَأْيِ الْمُثَنَّى كَمَا رَضِيَهُ الْمُتَوَفَّى.
وَإِذَا مَاتَ الْوَصِيُّ وَأَوْصَى إلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيُّهُ فِي تَرِكَتِهِ وَتَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ اعْتِبَارًا بِالتَّوْكِيلِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ كَالْجَدِّ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِلُ إلَى الْوَصِيِّ فِي الْمَالِ وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ الْجَدُّ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَبِ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ فَكَذَا الْوَصِيُّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَهُ فِيمَا لَهُ وِلَايَتُهُ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي التَّرِكَتَيْنِ فَيَنْزِلُ الثَّانِي مَنْزِلَتَهُ فِيهِمَا. وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَعَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ تَعْتَرِيهِ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ تَتْمِيمِ مَقْصُودِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَلَافِي مَا فَرَّطَ مِنْهُ صَارَ رَاضِيًا بِإِيصَائِهِ إلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ حَيٌّ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ مَقْصُودَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَالْإِيصَاءُ إلَيْهِ.
قَالَ (وَمُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى لَهُ عَنْ الْوَرَثَةِ جَائِزَةٌ وَمُقَاسَمَتُهُ الْوَرَثَةَ عَنْ الْمُوصَى لَهُ بَاطِلَةٌ)
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا) مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا أَوْصَى إلَى الْحَيِّ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ) يَعْنِي إذَا مَاتَ الْأَبُ كَانَ وِلَايَةُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ وَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِلْجَدِّ، فَكَذَا الْوَصِيُّ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْأَوَّلِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْخِلَافَةِ يُجْعَلُ الْأَوَّلُ قَائِمًا حُكْمًا. وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ. وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ لَهُ وِلَايَةٌ) أَيْ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةٌ فِي التَّرِكَتَيْنِ: أَيْ فِي تَرِكَةِ نَفْسِهِ سَمَّاهُ تَرِكَةً بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ، وَتَرِكَةِ مُوصِيهِ. أَمَّا فِي تَرِكَتِهِ؛ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ. وَأَمَّا فِي تَرِكَةِ مُوصِيهِ؛ فَبِاعْتِبَارِ الْوِصَايَةِ إلَيْهِ فَيَنْزِلُ الثَّانِي مَنْزِلَتَهُ فِيهِمَا. وَقَوْلُهُ (فَلَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ) أَيْ: لَا يَرْضَى الْمُوَكِّلُ بِأَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلَهُ غَيْرَهُ أَوْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ.
قَالَ (وَمُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى لَهُ عَنْ الْوَرَثَةِ جَائِزَةٌ) رَجُلٌ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ أَوْ كِبَارٌ غُيَّبٌ فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ الْمُوصَى لَهُ نَائِبًا عَنْ الْوَرَثَةِ وَأَعْطَاهُ الثُّلُثَ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ فَالْقِسْمَةُ نَافِذَةٌ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي الْمَنْقُولِ، وَالْعَقَارِ إنْ كَانُوا صِغَارًا، وَفِي الْمَنْقُولِ إنْ كَانُوا كِبَارًا، حَتَّى لَوْ هَلَكَ حِصَّةُ الْوَرَثَةِ فِي يَدِهِ لَمْ تَرْجِعْ الْوَرَثَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَارِثُ كَبِيرًا حَاضِرًا وَصَاحِبُ الْوَصِيَّةِ غَائِبًا فَقَاسَمَ الْوَصِيُّ مَعَ الْوَارِثِ عَنْ الْمُوصَى لَهُ فَأَعْطَى الْوَرَثَةَ حَقَّهُمْ وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ لِلْمُوصَى لَهُ لَمْ تَنْفُذْ الْقِسْمَةُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فِي الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْوَصِيِّ مَا أَفْرَزَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَرَثَةِ بِثُلُثِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا كَانُوا صِغَارًا كَانَ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ نَصِيبِ الصِّغَارِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ جَمِيعًا، أَمَّا إذَا كَانُوا كِبَارًا فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْعَقَارِ عَلَيْهِمْ وَلَهُ وِلَايَةُ بَيْعِ الْمَنْقُولِ، فَكَذَا الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ بَيْعٍ، وَوَجْهُ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْوَرَثَةَ وَالْوَصِيَّ كِلَاهُمَا خَلَفٌ عَنْ الْمَيِّتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَصِيُّ خَصْمًا عَنْهُمْ، وَقَائِمًا مَقَامَهُمْ. وَأَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ عَنْ الْمَيِّتِ بِكُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ، وَبَيْن الْوَصِيِّ مُنَاسَبَةٌ حَتَّى يَكُونَ خَصْمًا عَنْهُ، وَقَائِمًا مَقَامَهُ فِي نُفُوذِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute