للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ وَرَدَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَاؤُهَا كَانَ جَارِيًا فِي الْبَسَاتِينِ،

بَعْضِهِ بِبَعْضٍ.

(قَوْلُهُ: وَاَلَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ جَوَابٌ عَنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ) وَهِيَ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا: بِئْرٌ قَدِيمَةٌ بِالْمَدِينَةِ تُلْقَى فِيهَا الْجِيَفُ وَمَحَايِضُ النِّسَاءِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ حِينَ تَوَضَّأَ مِنْهَا فَقَالَ «الْمَاءُ طَهُورٌ» الْحَدِيثَ، وَقَدْ كَانَ مَاؤُهَا جَارِيًا فِي الْبَسَاتِينِ يُسْقَى مِنْهُ خَمْسُ بَسَاتِينَ، وَالْمَاءُ الْجَارِي لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ عِنْدَنَا. فَإِنْ قِيلَ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَكَيْفَ اخْتَصَّ بِئْرُ بُضَاعَةَ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِ الْعُمُومِ فِيهِ وَهُوَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ لِلتَّوْفِيقِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَجُهِلَ تَارِيخُهُمَا جُعِلَا كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا يُحْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَحْمَلٍ إنْ أَمْكَنَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يَتَهَاتَرَانِ، وَهَاهُنَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِأَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بِئْرِ بُضَاعَةَ وَحَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ، وَقَوْلُهُ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ» الْحَدِيثَ عَلَى غَيْرِهَا فَعَمِلْنَا كَذَلِكَ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ. فَإِنْ قِيلَ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ أَوَّلَ الْبَابِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى طَهُورِيَّةِ الْمِيَاهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ وَحَمَلَهُ هَاهُنَا عَلَى بِئْرِ بُضَاعَةَ، فَإِنْ كَانَتْ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْمَاءُ لِلْجِنْسِ صَحَّ الِاسْتِدْلَال وَبَطَلَ الْحَمْلُ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ صَحَّ الْحَمْلُ وَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال. أَجَابَ الْعَلَّامَةُ عَلَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ وَالِاسْتِدْلَالُ صَحِيحٌ، وَالْحَمْلُ لَيْسَ بِبَاطِلٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُشْتَمِلٌ عَلَى قَضِيَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا الْمَاءُ طَهُورٌ، وَالثَّانِيَةُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْمَقْصُودَ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى الثَّانِيَةِ وَالْحَمْلُ لِلثَّانِيَةِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ رَاجِعٌ إلَى مَا دَخَلَ عَلَيْهِ اللَّامُ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى مُعَيَّنٍ.

وَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَأُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أُرِيدَ بِضَمِيرِهِ الْآخَرُ جَازَ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ اسْتِخْدَامًا كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ … رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا

وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ» فِي كَوْنِهِ جَوَابًا زَائِدًا عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ كَانَتْ فِي دَفْعِ النَّجَاسَةِ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ «لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» إلَّا أَنَّهُ زَادَ قَوْلَهُ «الْمَاءُ طَهُورٌ» وَقَدْ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ مِنْ شَأْنِهَا التَّطْهِيرُ، وَمَاءُ بِئْرِ بُضَاعَةَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ إلَى آخِرِهِ لِكَوْنِهِ جَارِيًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْبَالِغُ قُلَّتَيْنِ طَاهِرًا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>