بختمه، وأرسل معه ألف ألف درهم، ونفّذ الدراهم والسّفط إلى منزله، وأخذ خطّ وكيله بقبضه، وأقام محمّد في دار الفضل إلى آخر النهار، ثم انصرف إلى داره، فوجد السفط ومعه ألف ألف درهم فسرّ بذلك سرورا عظيما، فلمّا كان الغد بكّر إلى الفضل ليشكره على ذلك فوجده قد بكّر إلى دار الرّشيد فمضى محمّد إلى الرشيد، فلمّا علم الفضل به خرج من باب آخر ومضى إلى دار أبيه فمضى محمّد إليه وشكره على فعله، وقال له: إنّي بكرت إليك لأشكرك على إحسانك، فقال له الفضل: إنّي فكّرت في أمرك فرأيت أنّ هذه الألف ألف التي حملتها أمس إليك لتقضي بها دينك ثم تحتاج فتقترض، فبعد قليل يعلوك مثلها، فبكرت اليوم إلى أمير المؤمنين وعرضت عليه حالك، وأخذت لك مائة ألف ألف درهم أخرى، ولمّا حضرت إلى أمير المؤمنين خرجت أنا بباب آخر، وكذلك فعلت لما حضرت إلى باب أبي، لأني ما كنت أوثر أن ألقاك حتّى يحمل المال إلى منزلك، وقد حمل.
فقال له محمّد: بأيّ شيء أجازيك على هذا الإحسان؟ ما عندي شيء أجازيك به إلّا أني ألتزم بالأيمان المؤكدة وبالطلاق والعتاق والحجّ، أنّي ما أقف على باب غيرك ولا أسأل سواك.
قالوا وحلف محمد أيمانا مؤكدة وكتب بها خطّه، وأشهد بها عليه أنه لا يقف بباب غير باب الفضل بن يحيى، فلما ذهبت دولة البرامكة وتولّى الفضل بن الربيع، فلم يفعل والتزم باليمين، فلم يركب إلى أحد، ولم يقف على باب أحد حتّى مات.
سيرة جعفر بن يحيى البرمكيّ
كان جعفر بن يحيى فصيحا لبيبا ذكيّا فطنا، كريما حليما، وكان الرشيد يأنس به أكثر من أنسه بأخيه الفضل! لسهولة أخلاق جعفر، وشراسة أخلاق الفضل. وقال الرشيد يوما ليحيى: يا أبي ما بال الناس يسمّون الفضل الوزير الصغير ولا يسمون جعفرا بذلك؟ فقال يحيى: إنّ خدمتك ومنادمتك يشغلانه عن ذلك. فجعل إليه أمر دار الرشيد: فسمّي بالوزير الصّغير أيضا.