للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من لم يزل للناس غيثا ممرّعا ... متخرقا [١] في جوده معوانا

(كامل) فلمّا وصل إلى قوله: في جوده، وقف وارتج عليه، وصار يكرّر، في جوده في جوده، مرارا حتى ضجر أبو عباد، وغلبت عليه السّوداء فقال: يا شيخ.

فقل صفعانا وخلّصنا، فضحك جميع من كان بالمجلس، وذهب غيظه هو أيضا فضحك مع الناس وأتمّ الغالبيّ قافيته بقوله معوانا، ثمّ وصله.

وزارة أبي عبد الله محمّد يزداد بن سويد للمأمون وهو آخر وزرائه

هم من خراسان، كانوا مجوسا ثم أسلموا، واتّصلوا بالخلفاء، وسويد أول من أسلم منهم، وكان قد مات أبوه وهو صغير، فأسلمته أمّه إلى بعض كتّاب العجم فنفذ نفاذا محمودا، وتعلّم آدابا كثيرة من آداب الفرس، ثم واظب على ملازمة الديوان بمرو [٢] ، وحضر صاحب الديوان في يوم مطير، وتخلف جميع الكتّاب والنّواب عن الحضور، وكان سويد جدّ محمّد حاضرا، فاحتاج صاحب الديوان إلى عمل حسبة فلم يكن عنده بالديوان أحد، فتولّى هو عملها بنفسه، وشرع فيها فكتب بعضها، ثم غلبه نعاس، وحانت منه التفاتة فرأى سويدا فسلّم الحسبة إليه، وقال له: احتفظ بها حتى أنتبه، ثم نام صاحب الديوان فتصفّح سويد الحسبة وتمّمها وبيّضها في نسخة حسنة بخط مليح وضبط صحيح، وانتبه صاحب الديوان وطلب منه الحسبة فدفعها إليه فوجدها مفروغا منها على أتمّ قاعدة وأحسن وجه، فقال:

يا صبيّ: من عمل هذه الحسبة؟ قال: أنا. قال: أفتحسن الكتابة؟ قال: نعم.

فأمره بلزوم سدّته [٣] التي كان فيها حسابه وأصول أعماله، وما يحبّ أن يحتفظ به وقرّر له معيشة، وتنقّل في الخدمات حتى حصل أموالا جليلة وارتفع قدره، ثم


[١] المتخرّق: المبالغ في العطاء. السخيّ جدّا.
[٢] مرو: عاصمة خراسان ومن أشهر مدنها. حولها واحة غنيّة. احتلّها أبو مسلم الخراساني في دعوته للعباسيّين.
[٣] أمره بلزوم سدّته: استبقاه في خدمته. والسدّة: كرسيّ الحكم.

<<  <   >  >>