فأنشدهما عبد العزيز بحضرة الصاحب وادّعاهما، وخفي الأمر على الصّاحب وما أدري من أيّهما أعجب؟! أمن الصّاحب كيف خفي عنه حال عبد العزيز مع أنه السنين الطويلة يعاشره في سفر وحضر، وجدّ وهزل؟ أم من عبد العزيز كيف رضي لنفسه مثل هذه الرّذيلة، وأقدم على مثل هذا مع الصاحب وما خاف من تنبّه الصاحب واسترذاله لفعله.
وتختلف علوم الملوك باختلاف آرائهم، فأمّا ملوك الفرس: فكانت علومهم حكما ووصايا، وآدابا وتواريخ، وهندسة وما أشبه ذلك. وأما علوم ملوك الإسلام فكانت علوم اللسان، كالنّحو واللّغة، والشّعر والتواريخ، حتّى إنّ اللحن كان عندهم من أفحش عيوب الملك، وكانت منزلة الإنسان تعلو عندهم بالحكاية الواحدة وبالبيت الواحد من الشّعر، بل باللفظة الواحدة من اللغة. وأما في الدولة المغوليّة:
فرفضت تلك العلوم كلّها، ونفقت فيها علوم أخر: وهي علم السياقة والحساب لضبط المملكة وحصر الدّخل والخرج، والطّب لحفظ الأبدان والأمزجة، والنجوم لاختيار الأوقات وما عدا ذلك من العلوم والآداب فكاسد عندهم، وما رأيته نافقا إلا بالموصل في أيام ملكها المشار إليه، مدّ الله ظلّه ونشر فضله.
ومنها الخوف من الله تعالى، وهذه الخصلة هي أصل كلّ بركة، فإن الملك متى خاف الله أمنه عباد الله روي أن عليّا أمير المؤمنين- عليه السلام- استدعى بصوته بعض عبيده فلم يجبه، فدعاه مرارا فلم يجبه، فدخل عليه رجل، وقال: يا أمير المؤمنين إنّه بالباب واقف، وهو يسمع صوتك ولا يكلّمك! فلمّا حضر العبد عنده، قال: أما سمعت صوتي؟ قال: بلى، قال: فما منعك من إجابتي؟ قال: أمنت عقوبتك، قال عليّ عليه السّلام: الحمد للَّه الّذي خلقني ممّن يأمنه خلقه. وما أحسن قول أبي نواس [١] لهارون الرشيد:
[١] أبو نواس: الحسن بن هانئ الشاعر العبّاسي الأشهر ونديم الخليفة الرشيد. توفّي عام/ ١٩٥/ هـ.